وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ:
كنت دائماً ما أتأمل ثناء الله سبحانه وتعالى على أخلاق رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وكنت أتوق لأن أصل بإدراكي لروعة هذه الأخلاق، أريد أن أفهم نقطة التميز في شخصية هذا النبي العظيم. حتى لحظة وفاة أمي، وشعرت حينها بحزن شديد كاد أن يُدمر حياتي لولا رحمة الله بي، ومع أنني كنت مُتزوجة في ذلك الوقت ولا أحتاج لرعايتها، لكن شوقي لها أفقدني الرغبة في التحدث مع الناس، وشعرت أن العالم يضيق من حولي، وأحسست بصعوبة فقدان حنان الأم، وتذكرت الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف عاش يتيماً، وتنقل من بيت إلى بيت، وعاش يفتقد حنان الأم والأب. حينها قلت لنفسي: هذه الظروف التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم، تُخرج إنساناً مُعقد الشخصية لا محالة، فأدركت حينها أنه مُختلف، وأنه عندما يَخرج إنسان من هذه الظروف بهذه الشخصية العظيمة، فهو فعلاً بأخلاق فريدة من نوعها. وتذكرت الآية الكريمة: ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم”، وحينها سكنت نفسي.
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُسُلِهِ:
المستشرق البريطاني وعالم الآثار “ستانلي لي بول” قال: “كان محمد رؤوفًا شفيقًا، يعود المريض، ويزور الفقير، ويُجِيب دعواتِ العبيد الأرقاء، وقد كان يُصلِح ثيابَه بيدِه، فهو إذًا -لا شكَّ- نَبِي مقدَّس، نشأ يتيمًا مُعْوِزًا، حتى صار فاتحًا عظيمًا” [1].
أذكر أثناء حواري مع مجموعة من جنسيات وثقافات وديانات مختلفة، وقد كنت أتكلم عن التوحيد، وصفات الجمال والجلال الإلهي، وأهمية عبادة الخالق بدون وسيط، كان قد قاطعني شخص من المجموعة بسؤال، حيث قال: من أعظم المسيح أم محمد؟
قلت له: أنت تسأل لتُقارن بين إله وإله آخر؟ أم لتُقارن بين رسول ورسول آخر؟ إن كنت تُقارن بين إلهين، فلا إله إلا الله، فالمسيح رسول ومحمد رسول. وإن كنت تقارن بين رسول ورسول، فنحن لا نُفرق بين أحد من رسل الله.
“آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”. (البقرة: 285)
قال: إن كنتم تُحبون المسيح، فلماذا لا تحتفلون بميلاده؟
قلت له: أتقصد الاحتفال بميلاد المسيح ابن الله، أم ميلاد المسيح رسول الله؟ إن كان ميلاد ابن الله، فهذا مردود، لأن الله لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. أما إن كان رسول الله؛ فنحن لا نُعارض تذكره والثناء عليه في يوم ميلاده بل وفي جميع الأوقات أيضاً، مع أنه ثبت أنه لم يُولد في الشتاء أصلاً، ولكن الاختلاف على تحديد يوم ميلاده لا يُؤثر على العقيدة في شيء.
قال: ولماذا لا تُزوجون بناتكم لليهود والنصارى؟
قلت له: الزوج المسلم يحترم أصل دين زوجته النصرانية أو اليهودية وكتابها ورسولها، بل لا يتحقق إيمانه إلا بذلك، ويعطيها الحرية لممارسة شعائرها، والعكس ليس صحيح، فمتى آمن النصراني أو اليهودي برسولنا زوجناه بناتنا.
الإسلام إضافة واكتمال للعقيدة، فأنا إن أردت اعتناق النصرانية مثلاً، فعليَّ أن أخسر إيماني بمحمد والقرآن، وأخسر علاقتي المُباشرة مع رب العالمين، بالإيمان بالثالوث، وباللجوء إلى القساوسة والقسيسين وغيرهم، وإن أردت اعتناق اليهودية، فعلي أن أخسر إيماني بالمسيح والإنجيل الصحيح.
وأذكر في لقائي لمجموعة كبيرة من دولة مالطا، وبعد عرض قصير لي عن الإسلام، قالوا جميعهم وبصوت عالي وواحد: إذاً محمداً ليس إلهكم؟
قلت لهم: لا، محمد رسول الله، ولكن للأسف يُروَّج لهذه الفكرة المغلوطة من غير المسلمين، لتبرير عبادة المسيح وبوذا وغيرهم.
“قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا “.( الكهف: 110)
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ:
قال المستشرق الأمريكي سنكس في كتابه “ديانة العرب” “: ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصولَ الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعِهَا إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة”.
من المواقف الرائعة التي تعرضت لها في حياتي، وكان يوماً صعباً لكثرة الزوار، وأعدادهم الهائلة التي تصل إلى الآلاف، ظهر رجل لاتيني في ذلك اليوم من بين مجموعات كثيرة ومتراصة من الزوار، وقد سألني بالإسبانية: من هو البارقليط؟
قال معقباً: أنا أسافر مع زوجتي وابنتي وأجول العالم باحثاً عن الحقيقة، وأريد أن أعرف من هي هذه الشخصية الذي تكلم عنها المسيح في الإنجيل[2].
“الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”. (آل عمران: 157)
قلت له: البارقليط هو محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: كيف هذا؟
قلت له: لا يؤمن المُسلمون بأن العهد القديم والعهد الجديد الموجودان حاليا بين أيديكم، هما كلام الله، لكنهم يؤمنون بأن كلاهما له مصدر صحيح، والذي هو التوراة والإنجيل (وهو ما أوحاه الله إلى أنبيائه: موسى والمسيح عيسى). لذلك فإنه قد يوجد في العهد القديم والعهد الجديد ما هو من عند الله. ويعتقد المسلمون أن هذه النبوءة إن صحت، فهي تتكلم عن النبي محمد، لأنها تتكلم عن نبيّ يأتي بعد أن يذهب المسيح، ويبقى بتعاليمه إلى الأبد.
قال: لكن هذه الشخصية لا ينبغي أن تكون بشراً بل روحاً، فهي تُشير في النصرانية إلى الذات الثالثة في الثالوث، والتي تُعتبر إلها.
قلت له: ارجع إلى كتابك وانظر كيف أُشير إلى الأنبياء بكلمة روح مراتٍ كثيرة. فمن الممكن أن تُطلق كلمة “روح” على إنسان في العهد الجديد. ووفقاً لما ذُكر في التاريخ، فقد فهم كثير من النصارى القدامى أن “البارقليط” رجل وليس روح، وقد ادعى رجال كثيرون قبل النبي محمد أنهم ” البارقليط ” المُنتظر. وكان النجاشي ملك الحبشة نصرانيا ينتظر قدوم ” البارقليط “.
قلت له مستطردة: وتقول النبوءة أنه يتكلم بما يَسمع، والحقيقة هذا وصف لنبي وليس لرب. فالنبي يتكلم بما يسمعه من الله. وهذا دليل على أن هذه النبوءة لا تُشير إلى الذات الثالثة في الثالوث (كما يعتقد النصارى) بل تشير إلى نبي يُرسله الله.
قال: لكن النبوءة تقول: البارقليط يُخبركم بأمور آتية.
قلت له: نعم وهذا ما فعل النبي محمد عليه الصلاة والسلام. ومثال ذلك انتصار الرومان بعد هزيمتهم على أيدي الفرس.
قلت له مستطردة: ثم أنه من المستحيل أن تشير هذه النبوءة إلى الروح القدس، لأنها تقول: إن البارقليط سوف يظهر بعد ذهاب المسيح، والروح القدس موجود أصلاً، وقد ظهر للسيدة مريم قبل حملها بالمسيح حسب اعتقادكم.
وقد أثارت كلمة “Paraclete” جدالاً كبيراً، يدور حول أن كلمة “Paraklytos” في الإنجيل اليوناني كانت أصلا “Periklytos”، وتغيرت خلال ترجمتها من السريانية إلى اليونانية. كما أن كلمة “Paraclete” تحمل معنيين في اليونانية:
– مُعزي ومُؤِّيد ومُساعِد: (παρακλητος) Paraklytos كما يعتقد النصارى. وهذا يعتمد على نطق الكلمة الذي يحتوي على صوت حرف العلة “a”.
– محمد أو أحمد (الإنسان الممدوح): (Περικλητος) Periklytos كما يعتقد المسلمون. أما نُطق الكلمة هنا يكون بدون صوت حرف العلة “a”.
وبالإضافة إلى أن المعنى الثاني تؤيده الأدلة، فقد ثبت أن اللغة السريانية لم تحوِ حروف العلة حتى القرن الخامس، فقد احتوت على حروف الصحاح فقط، أما حروف العلة فقد أُدخلت بعد القرن الخامس، ومع ذلك فإنه في كل الأحوال فإن كلا المعنيين ينطبق على النبي محمد[3].
قال: النبوءة تقول: إنه سوف يُدين العالم، فكيف أدان محمد العالم؟
قلت له: قد أدان محمداً اليهود على عدم إيمانهم بالمسيح عيسى كنبيٌّ مُرسَلٌ من الله، كما أدان النصارى على اعتقادهم بالثالوث وبادعائهم بألوهية المسيح: وهذا يُعدُّ ذنباً، حيث لم يدعِ المسيح أنه الله أو ابن الله قط. وعندما أشار عيسى إلى نفسه في الإنجيل بأنه ابن الله، أوضح أنه ليس الابن المولود، ولكن نحن كلنا أبناء الله مجازاً، بمعنى عباد الله.
قال: ويُرشد البارقليط الناس للحق، ويُمجِّد المسيح.
قلت له: قد ذكَّر النبي محمد العالم بالعقيدة الخالصة وهي (الإيمان بإله واحد وتوحيده في العبادة).
قلت له أيضاً: لم يُمجِّد المسيح أحداً على الأرض، كما مَجَّده محمد عليه الصلاة والسلام. حيث قال:
“أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، في الأُولَى وَالآخِرَةِ قالوا: كيفَ؟ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: الأنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِن عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، فليسَ بيْنَنَا نَبِيٌّ (بين المسيح عيسى وبيني).
وذُكر اسم المسيح عيسى في القرآن أكثر من اسم النبي محمد (25مرة مقابل4مرات).
فُضلت مريم أم عيسى على نساء العالم وفقا لما جاء في القرآن.
كما أن السيدة مريم هي الوحيدة التي ذكرت باسمها في القرآن.
وهناك سورة كاملة في القرآن باسم السيدة مريم[4].
أبدى لي الزائر وزوجته وابنته سعادة لا تُوصف، وقالوا: لو لم نخرج برحلتنا الطويلة هذه إلا بهذه المعلومات لكفتنا. لقد وجدنا الحقيقة، ونشكر الله أن هدانا إليها بعد طول عناء، لقد كان لدينا إيمان عميق بأن لا إله إلا الله والمسيح رسول الله، والآن نخرج من هنا بشهادة أن محمداً رسول الله.
” وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ”. (القرآن 61: 6)
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ:
في حوار لي مع مجموعة من اليهود الكنديين، وبعد أن تكلمت عن التوحيد، قال لي أحدهم: ما مُشكلتكم أنتم المسلمون معنا؟
قلت له: المُسلم ليس لديه مشكلة مع أحد، لقد آمن بعيسى وموسى وغيرهم من الأنبياء، وعبد الله وحده.
قال: وأنا لا أرى مُشكلة من أن يكون محمد رسولاً.
قلت له: أوَ تجعل الإيمان به، ركن من أركان إيمانك؟
قال: لا.
قلت له: الإيمان بموسى ركن من أركان إيمان المسلم.
قال: لم يُذكر محمداً في كُتبنا.
قلت له: ومن هو المقصود في هذه الفقرة في العهد القديم؟
” ويُدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة، ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف القراءة”[5].
هل تنطبق هذه النبوءة على أحد غير محمد النبي الأمي؟ فإنه حتى مولد المسيح عيسى عليه السلام كان بني إسرائيل (يعقوب) ينتظرون قدوم نبي والمسيح[6].
قال: لا أعرف، نحن لا زلنا ننتظر المسيح والنبي المنتظر. واستطرد قائلاً: لقد نسخ محمد من التوراة.
قلت له: وهل ادعى اليهود في زمن نزول الوحي ذلك؟
قال: لا.
قلت له: لو كان القرآن من عند اليهود، لكانوا أسرع الناس في نسبته لأنفسهم.
وقلت له أيضاً: ألم تختلف التشريعات والمعاملات، من صلاة وحج وزكاة؟ ثم انظر إلى شهادة غير المسلمين بتميز القرآن عن غيره من الكتب وعدم بشريته واحتوائه على الإعجاز العلمي. وإنه عندما يعترف صاحب عقيدة بصحة العقيدة التي تخالفه، فهو أكبر دليل على صحتها. هي رسالة واحدة وينبغي أن تكون واحدة، ما جاء به النبي محمد ليس دليلاً على تدليسه، بل على صدقه. ولقد تحدى الله العرب المتميزين بالبلاغة آنذاك، وغير العرب بأن يأتوا حتى ولو بآية واحدة بمثله وفشلوا، وما زال التحدي قائماً.
قال: ليس هناك إعجاز علمي في القرآن، ولكن محمداً قد نسخ هذه المعلومات من الحضارات السابقة.
قلت له: وهل كل ما وُجد عند الحضارات القديمة من علوم كان صحيحاً؟
قال: لا. كان منها الصحيح، ومنها الكثير من الأساطير والخرافات.
قلت له: وكيف استطاع نبيٌّ أُميّ، نشأ في صحراء مُقفرة، أن ينسخ من هذه الحضارات الصحيح فقط، ويَترك الأساطير؟
قال: وما رأيكم بزوجة آدم الأولى التي تزوجها قبل حواء؟
بصراحة لم أتمالك نفسي من الضحك على هذه المعلومة الغريبة، والتي لم أسمعها قط في حياتي.
قلت له: هذه الشخصية لم يتكلم عنها الإسلام أبداً، ولكن ماذا يُضيف الإيمان بوجود هذه الشخصية إلى عقيدتكم؟
قال: لا شيء.
قلت له إذاَ فكر ملياً بما يُضيف إلى عقيدتك، وهو الإيمان بالله وعبادته وحده، والإيمان بكل أنبيائه بما فيهم عيسى ومحمد.
قال: ولماذا أهمل محمد قِبلة الأنبياء؟
قلت له: ولماذا أهمل اليهود السامراء قِبلة بيت المقدس، ويُصلون إلى طور لهم في فلسطين؟
قلت له أيضاً: إن استقبال اليهود لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله، فليس في التوراة أمر باستقبال الصخرة أبداَ، بل هو بناءً على اختيار منهم، أما النصارى فلم يأمرهم الله في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق أبداً[7].
قلت له أيضاً: قد أخبرنا القرآن أن البيت الحرام في مكة، كان في الواقع هو أول بيت للعبادة مخصصاً للبشرية، ورفع بنيانه النبي إبراهيم وابنه إسماعيل فيما بعد. ومن المعروف جيداً أن المعبد في القدس بُني بعد النبي إبراهيم بزمن طويل، بينما كان البيت الحرام في مكة قبل إبراهيم.
” إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ“. (آل عمران: 96)
وقد كانت الكعبة دائما مذكورة على مر التاريخ، يزورها الناس سنويا حتى من أبعد بقاع الجزيرة العربية، وتحترم قدسيتها كل الجزيرة العربية.
وقد ورد ذكرها في نبوءات العهد القديم، “عابرين في وادي بكة يصيرونه ينبوعا” [8].
وقد كان العرب يُعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، وعند بعثة النبي محمد جعل الله قبلته في بادئ الأمر بيت المقدس، ثم أمره الله بالتحول عنها إلى البيت الحرام حتى يستخلص من أتباع النبي محمد المخلصين لله من الذين ينقلبون عليه. فقد كان الهدف من تحول القبلة هو استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، حتى استسلم المسلمون واتجهوا إلى القبلة التي وجههم لها الرسول، وقد كان اليهود يعتبرون توجه الرسول بالصلاة لبيت المقدس حُجةً لهم.
وقد كان تحويل القِبلة أيضاً بمثابة نقطة تحول وإشارة إلى انتقال القيادة الدينية الى العرب بعد أن نُزعت من بني إسرائيل، وذلك بسبب نقضهم للعهود مع رب العالمين.
قال: عليّ أن أذهب الآن، ونحن بعقيدتنا لا نُصافح النساء لأنهن بمستوى أدنى من مستوى الرجال، لكن سوف أصافحكِ أنتِ فقط، تقديرك لعِلمك.
قلت له: أما نحن فبعقيدتنا لا نُصافح الرجال، لأننا مُكرمات كالمَلِكات، وبالتالي فلن أصافحك.
تقول الكاتبة الإيطالية الدكتورة “لورا فيتشا فاليري”:
“في بلد قفر بوادٍ غير ذي زرع، منعزل عن الإنسانية المتمدنة، تفجَّر ينبوعُ ماء سلسل عَذْب منعش بين قوم من الهمج، جبابرة غلاظ القلوب، لا يَخضعون لسلطان، ولا يتقيدون بقيد، ذلك الينبوع هو دين الإسلام الذي تدفَّق بغزارة واتَّخذ سبيله في الأرض سربًا، فكان نُهَيرًا، استحال بعده إلى نهر عظيم سرعان ما تفرعت منه آلاف الجداول والأنهار، التي تغلغلت في البلاد طولاً وعرضًا، ولم يلبثِ الناسُ أن تذوقوا هذا الشراب العجيب، وشُفُوا من أمراضهم الاجتماعية. إن رجالَ الغرب قد بدأوا يقتنعون بأن إخلاص محمد في دعوته كان أمرًا لا ريبَ فيه، ولقد كان محمد كرسول يدعو إلى الله، رجلاً رحيمًا لَيِّنَ الجانب حتى لأعدائه الشخصيِّين، وبذلك اجتمعت فيه فضيلتان كلتاهما أكبر الفضائل التي يتصورها العقل البشري: الرحمة، والعَدالة، ولا نرَ بنا من حاجةٍ إلى إيراد الأمثلة على ذلك، فمن السهل الوقوف على كثير منها في الكتب الموضوعة عن تاريخ حياته”[9].
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ:
في حواري مع مُلحد، كان قد استهزأ بمعجزة الإسراء والمعراج، وكيف استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم الوصول إلى بيت المقدس والعروج إلى السماء والعودة في نفس الليلة؟
قلت له: أنا اليوم حصل معي ما هو أعجب، أثناء إلقاء محاضرة لي، كنت متواجدة في أكثر من عشرين دولة في الوقت نفسه.
ضحك، وقال: تقصدين وسائل التواصل الاجتماعي طبعاً.
قلت له: لقد أوصلت التكنولوجيا البشرية صوتي وصورتي إلى كل أنحاء العالم في نفس اللحظة، أفلا يستطيع خالق البشرية قبل 1400 عام أن يعرج بنبيه بالروح والجسد إلى السماوات.
إن رحلة الإسراء والمعراج، جرت وفق طلاقة القدرة والمشيئة الإلهية، والتي هي أعلى من مداركنا، وتختلف عن جميع القوانين التي نعرفها، وهي آيات وبراهين على قدرة رب العالمين، كون أنه مَن سنَّ ووضع هذه القوانين.
يقول ابن القيم: “كانت رحلة الإسراء اختباراً جديداً للمسلمين في إيمانهم ويقينهم، وفرصة لمشاهدة النبي – صلى الله عليه وسلم – عجائب القدرة الإلهية، والوقوف على حقيقة المعاني الغيبيّة، والتشريف بمناجاة الله في موطنٍ لم يصل إليه بشرٌ قطّ، إضافةً إلى كونها سبباً في تخفيف أحزانه وهمومه، وتجديد عزمه على مواصلة دعوته والتصدّي لأذى قومه”.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ:
قال غاندي الزعيم الهندي الشهير في حديث لجريدة “ينج انديا” وتكلم فيه عن صفات النبي محمد حيث قال عنه:
“أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر. لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة”.
وفي حواري مع نصراني من الكاميرون وصديقته البريطانية، وأثناء ما كنت أقول لا إله إلا الله، قاطعني بقوله:
ولماذا تحرش محمدٌ بطفلة صغيرة؟
قلت له: أفهم من مقاطعتك لي أنك مُوافق على أنه لا إله إلا الله، ومشكلتك الآن مع تفاصيل حياة الرسول.
قال: لا، لا لا أوافق، المسيح أيضاً إله.
قلت له: ولماذا لا تناقشني بنفس النقطة التي أتكلم فيها إذاً؟
قال: لا تجيبي على سؤالي بسؤال، لماذا تحرش رسولكم بطفلة؟
قلت له: ومن أخبرك بهذا؟
قال: كتاب البخاري الذي تؤمنون به.
قلت له: وهل اشتكت السيدة عائشة ذلك قط؟
ألم تقرأ في البخاري ما يتكلم عن حب السيدة عائشة الشديد للرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل تحب البنت المتحرش بها؟
ألم تقرأ في البخاري أنه زواج وليس تحرشاً؟
وكم كان عمر السيدة مريم عندما أنجبت المسيح؟ وكم كان عمرها في عقيدتكم عندما كانت مخطوبة لرجل تسعيني قبل حملها بالمسيح؟ أليس عمر مقارب لعمر السيدة عائشة عند زواجها بالرسول؟
قلت له مستطردة: العجيب أنه في ذلك الوقت، أعداء الرسول اتهموه بأبشع التهم، وقالوا عنه شاعر ومجنون، ولم يُعيره أحد بهذه القصة، ولم يذكرها أحد قط، إلا أنتم الآن. فهذه القصة إما أن تكون من الأمور الطبيعية التي درج عليها الناس في ذلك الوقت، أو أنها لم تحدث بالطريقة التي تتصورونها أنتم.
قال: ولماذا تزوج محمد بتسع نساء، وحرَّم ذلك على أصحابه؛ بتحديده الزواج لهم من أربع نساء فقط؟
قلت له: ولماذا – حسب زعمكم – اتهمتم أنبياء الله بالزنى كما ذُكر في العهد الجديد؟ وحاشاهم فعل ذلك.
قال: ليُعلمونا أن الزنا حرام.
قلت له: عجيب! تُؤمنون أن أنبياء الله اقترفوا الكبائر من زنا وقتل وشرب خمر بحجة تعليم أتباعهم الصحيح من الخطأ وتستنكرون زواج الرسول زواجا شرعياً بأمر من الله ليُعلِّم المسلمين دروسا وعبراً.
الرسول في حياته كبشر وقبل نبوته بقي في زواجه 25 عاماً دون أن يتزوج بامرأة أخرى، وكانت زوجته تكبره بـ 15 عاماً. وتزوج الرسول بعد بعثته بأكثر من واحدة بأمر من الله، وعندما نزلت آية تحديد الزواج بأربعة فقط، كان الرسول لديه أكثر من أربع نساء، وباعتبارهن أمهات المؤمنين، فإنهن لا يستطعن الزواج بغيره إن طلقهن.
ولماذا قاتل محمدٌ أعداءه؟ فلم يكن المسيح مُقاتلاً، بل كان مُحباً لأعدائه.
قلت له: ولماذا آمنت بموسى إذاً وقد كان مُقاتلاً، وآمنت بداوود وقد كان مُقاتلاً؟
تولى موسى ومحمد مقاليد الأمور السياسية والدنيوية، وهاجر كل منهما من المجتمع الوثني، فخرج موسى بقومه من مصر، وكانت هجرة محمد إلى يثرب وقبلها هاجر أتباعه إلى الحبشة، وذلك هروبا من النفوذ السياسي والعسكري في البلاد التي فروا منها بدينهم. ووجْه الاختلاف لدعوة عيسى عليه السلام هو أنها كانت لغير وثنيين وهم اليهود (خلافا لموسى ومحمد لأن بيئتيهما وثنيتان: مصر وبلاد العرب)، الأمر الذي كانت معه الظروف أشد وأصعب، فالتغيير المنوط بدعوتي موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، تغيير جذري وشامل ونقلة نوعية هائلة من الوثنية إلى التوحيد.
قلت له مستطردة: إن عدد ضحايا الحروب التي دارت في زمن الرسول لا تتجاوز الألف شخص فقط، والتي كانت دفاعاً عن النفس ورداً لعدوان، أو تأميناً للدين، انظر لعدد الضحايا التي وقعت بسبب حروب شًنت باسم الدين، في الديانات الأخرى، وقد كانت بالملايين.
قال: إنَّ غزوات رسولكم كانت سلباً ونهباً.
قلت له: ظل النبي يدعو بدعوته في مكة 13 عاماً واحتمل اضطهاد قريش، ولم يكن له غنائم أو أسلاب، وما كان يُؤخذ من غنائم لاحقاً، هو إما مال من أهل الحرب يأخذه المسلمون حتى لا يتقوى العدو بها على محاربتهم، وإما استردادا لأموال المهاجرين التي أُخذت مِنهم عنوة، وهذا يختلف عن النهب الذي يترتب عليه إزهاق لأنفس بريئة كالنساء والأطفال. وقد وزع الرسول الكريم الغنائم على من أسلم لتأليف القلوب، وعلى غير المسلم لتحبيبه في الإسلام، ودعا إلى الصفح ورد الحقوق إلى أصحابها، وقد تفوق الإسلام على اتفاقية جنيف بشأن حقوق الأسرى في الحروب، فكان النبي محمد عليه الصلاة والسلام يأمر أتباعه بمعاملة الأسرى معاملة حسنة وأن يقدموهم على أنفسهم في المأكل والملبس.
قال: كان الملائكة الذين نزلوا لمساعدة المُسلمين في معركة بدر ضعاف البأس، ولم يقتلوا كل المشركين آنذاك.
قلت له: إذن فأنت تصدق بنزول الملائكة.
قال: لا، ولكن أجاريكم في الرأي.
قلت له مبتسمة: المقصود من نزول الملائكة في معركة بدر هو تثبيت قلوب المؤمنين في المعركة وتعليمهم أن الله يُعين من يلجأ إليه ويتوكل عليه. كما أن الله لم يشأ أن يُقتل جميع المشركين، لعلمه أن منهم من سيعتنق الإسلام لاحقاً.
قال: ولماذا لم تنزل الملائكة في معركة أُحد؟
قلت له: الدرس هنا مختلف، وهو عن أهمية الأخذ بأسباب النصر المادية وأهمية طاعة القائد.
قال: ومذبحة يهود بنو قريظة، وحد الحرابة، أليست هذه وحشية؟
قلت له: وما عقاب الخائنين وناقضي العهود في قوانين الأمم المتحدة اليوم؟ تخيل فقط مجموعة عقدت العزم على قتلك وقتل أهلك جميعاً وسلب أموالك؟ ما كنت أنت فاعلُ بهم؟
يهود بني قريظة نقضوا العهد، وتحالفوا مع المشركين للقضاء على المسلمين، فعاد كيدهم في نحرهم.
قال: انتشر الإسلام بالسيف ولم ينتشر بالسِّلم.
قلت له: بدايةً، كلمة سيف لم تُذكر في القرآن الكريم ولا مرة واحدة، وقد حكم المسلمون الهند فترة طويلة من الزمن، ولم يقتلوا الهندوس والنصارى ولم يُجبروا الجميع على الإسلام بالقوة. أما عاش اليهود والنصارى في بلاد الأندلس تحت حكم الإسلام يمارسون عقائدهم وينعمون بحقوقهم؟ إن البلاد التي لم يشهد فيها تاريخ الإسلام حروباَ، هي التي يقيم فيها أكثر مسلمي العالم، مثل أندونيسيا والهند والصين وغيرها.
فاجأني بقوله: أنا فقط للعِلم نبيٌّ مُرسَل، وقد كُنت أختبرك.
ابتسمت وقلت له: تشرفنا بحضوركم، أنا للأسف لم أكن أعرف ذلك، سوف أقوم باستدعاء زميل لي هنا في المركز، وسوف يُكمل الحوار معك.
فاستدعيت زميل لي، حيث أنني لم أستطع إكمال حواري معه لإرهاقي الشديد، وقد تبين لي أنه مُتلاعب.
جاء زميلي وقال: أهلاً بك يا سيدي، كيف يُمكنني مساعدتك؟
قال: أنا نبيٌّ مُرسَل، وأستطيع ان أتنبأ بمستقبلك الآن.
قال له زميلي: ولماذا المُستقبل، نحن في الحاضر، أنا اليوم أعاني من وجعٍ ما، فأخبرني بما أعاني منه منذ الصباح؟
قال: لا، لا. الأمور لا تسير هكذا.
قال له: وكيف تسير إذاً.
قال: عليّ أن أغادر المكان حالاً، شكراَ لكم على الاستضافة.
تقول الكاتبة الإيطالية الدكتورة “لورا فيتشا فاليري” أيضاً:
“وحسبُك أنَّ الحروب التي هي أقصى ضرورات الحياة الإنسانية قد صارت بفضل محمد أقلَّ وحشية وقسوة؛ إذ إنَّه كان يطلب من جنودِه ألا يقتلوا شيخًا ولا امرأة ولا طفلاً، ولا يهدموا بيوتًا لم تتخذْ كمعاقل حربية، ولا يدمروا ما بها من أسباب الحياة، ولا يَمسوا الأشجارَ المثمرة والنخيل”[10].
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا:
قال إدوار مونتيه مدير جامعة جنيف في محاضرة له: “إنَّ الإسلام دينٌ سريع الانتشار، ينتشر من تلقاء نفسه دون أيِّ تشجيع تقدمه له مراكز منظمة، وذلك لأن كل مسلم مبشّر بطبيعته، المسلم شديد الإيمان، وشدة إيمانه تستولي على قلبه وعقله، وهذه مَيْزَة في الإسلام ليست لدين سواه، ولهذا السبب ترى المسلم الملتهب إيمانًا يبشر بدينه أينما ذهب وأنَّى حَلَّ، وينقل عدوى الإيمان الشديد لكل من يتَّصل به من الوثنيِّين، ولعمري، إنَّ للإيمان الإسلامي الشديد أكبر فضل في نشره هذا الانتشار السريع، وفضلاً عن الإيمان، فالإسلام تمشى مع الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وله قدرة عجيبة على التكيف بحسب المحيط وعلى تكييف المحيط حسب ما يقتضيه هذا الدين القوي”[11].
في حوار لي مع قساوسة من الكنيسة الأرثوذكسية في أثيوبيا، دار بيننا هذا الحوار:
قال أحدهم: لماذا يُقتل المُرتد في الإسلام، وقد ضمن الإسلام حرية العقيدة كما تدَّعون؟
قلت له: الإيمان علاقة بين العبد وربه، متى أراد قطعها، فأمُره إلى الله، لكن متى أراد أن يُجاهر بها ويأخذها كذريعة لمحاربة الإسلام وتشويه صورته وخيانته، فمن بديهيات قوانين الحرب الوضعية حتمية قتله، وهذا ما لا يختلف عليه أحد.
قال: قال المسيح: أحبوا أعداءكم، وقال المسيح أيضاً: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. أما محمد فقد حارب أعداءه.
قلت له: أما ما يُنسب إلى عيسى عليه السلام من قوله: من ضربك في خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، فليس لدينا ما يدل على ثبوته حتى نبني عليه أحكاما، ولو صح هذا القول، فقد يكون المقصود هنا العفو عن المسيء، ولكن ليس الذل والخنوع. ألم يقل المسيح: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا ونارا وانقساما”[12].
هناك أوامر صدرت من المسيح لأتباعه بأن لا يُقاوموا الأعداء، فلو أمرهم بمقاومة مضطهديهم لكان ذلك فيه القضاء على دعوته منذ بدايتها. ولذلك فإن مقولة من لطمك على خدك الايمن فأدر له الايسر، إن صحت، فهي ليست قاعدة عامة ومطلقة، وإنما تعبير عن منهج عمل في ظروف خاصة، ولا أعتقد أن المسيح يُضيّع حقوق الناس، لأن الضرب حالة اعتداء على الآخرين تترتب عليها حالة قصاص.
كما تجلّت رحمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وتمكين الله تعالى له، حينما قال: اليوم يوم المرحمة. وأصدر عفوه العام عن قريش التي لم تدّخر وسعاً في إلحاق الأذى بالمسلمين، فقابل الإساءة بالإحسان، والأذيّة بحسن المعاملة.
“وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” . (فصلت:34)
ومن صفات المتقين:
“…والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”. (آل عمران: 134)
قال: لماذا عفا المسيح عن الزانية بينما أقام محمد حد الزنا؟
قلت له أولا: هناك اتفاق تام بين اليهودية والنصرانية والإسلام على تشديد العقوبة على جريمة الزنا [13] .
وفي النصرانية: شدد المسيح في معنى الزنا، فلم يجعله قاصرًا على الفعل المادي المحسوس، بل نقله إلى التصور المعنوي[14]. وقد حرمت النصرانية على الزناة أن يرثوا ملكوت الله، وليس لهم بعد ذلك من قرار سوى العذاب الأبدي في جهنم[15].وعقاب الزناة في هذه الحياة هو ما قررته شريعة موسى، أي القتل رجمًا[16].
وكما ويعترف علماء الكتاب المقدس اليوم أن قصة عفو المسيح عن الزانية في الواقع لا وجود لها في أقدم نسخ إنجيل يوحنا، ولكنها أضيفت إليه فيما بعد، وهذا ما تقرره التراجم الحديثة. وأهم من هذا كله أن المسيح كان قد أعلن في بدء دعوته أنه ما جاء لينقض ناموس موسى والنبيين من بعده أو من قبله، وأن زوال السماء والأرض أيسر عليه من أن تسقط نقطة واحدة من شريعة موسى[17]. ومن ثم لا يمكن أن يعطل المسيح شريعة موسى بترك المرأة الزانية بلا عقاب[18].
ويُقام الحد بشهادة أربعة شهود، مع وصف حادثة الزنا بما يؤكد وقوعه، وليس مجرد تواجد رجل مع امرأة في مكان واحد، وإذا تراجع أحد الشهود عن شهادته يُوقف الحد. وهذا يفسر قلة وندرة إقامة حدود الزنا في الشريعة الإسلامية على مدى التاريخ، لأنه لا يَثْبتُ إلا بهذه الطريقة، وهذا أمر عسير، بل يكاد يكون مستحيلاً إلا باعتراف المرتكب.
ومن المبادئ العامة في الإسلام، فيما يتعلق بإقامة الحدود المقررة على الخطأ، أنه:
يجب التحرز تمامًا، والتأني، وتلمس المعاذير ودرء الشبهات التي تجعل ضمير القاضي غير مستريح للحكم بإقامة الحد؛ وذلك لحديث رسول الله: “ادرؤوا الحدود بالشبهات”.
من أخطأ وستره الله، ولم يظهر خطيئته للناس، فلا حد عليه؛ فليس من الإسلام تتبع عورات الناس، والتجسس عليهم.
في حالة إقامة حد الزنا بناءً على اعتراف أحد الخاطئين – وليس بناءً على شهادة الشهود الأربعة – فلا حد على الطرف الثاني الذي لم يعترف بجرمه.
“إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا “. (النساء: 17)
” وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا”.(النساء: 110)
“يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا “.(النساء: 28)
وقد جاءت امرأة معترفة بطواعيتها -من غير إكراه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب منه أن يُقيم عليها الحد، وكانت حبلى من الزنا. فدعا نبي الله وليَّها، فقال: أحسنْ إليها، وهذا يدل على كمال الشريعة، وكمال رحمة الخالق بالمخلوقين.
وقال لها الرسول: ارجعي حتى تلدي.
وعندما عادت قال لها: ارجعي حتى تفطمي ابنك، وبناءً على إصرارها على العودة بعد فطام الصغير إلى الرسول، أقام عليها الحد، وقال: لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم.
فرحمة الرسول عليه الصلاة والسلام تجلت في هذا الموقف النبيل.
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا:
في زيارة نادرة لرهبان معبد بوذي من دولة تايلاند، وكانوا ثلاثة رهبان قد جاءوا برفقة وفد دبلوماسي من السفارة التايلندية، وكان الرهبان يرتدون ما أشبه بملابس إحرام المسلمين، ولكن برتقالية اللون. وقد أُعطينا تعليمات في بداية الزيارة أن الرهبان لا يُصافحون النساء، وأنهم عند أخذ الصورة التذكارية معي داخل المسجد كمشرفة للجولة، يجب أن أركع مع طاقم عمل السفارة على رُكبي، بينما يبقى الرهبان واقفين على أرجلهم، باعتبارهم أعلى مقاماً من الجميع.
فقلت لهم: أما بالنسبة للمُصافحة فأنا لا أصافح الرجال، لكن بالنسبة للصورة، فلن أتصور إلا واقفة، ولا أركع إلا لله، فإذا لم يَرُق لكم هذا، فسوف أخرج من الصورة، فوافقوا والتُقطت الصورة لنا، وأنا واقفة إلى جانب الرهبان على مسافة بعيدة، وطاقم السفارة جالسون على الأرض.
قال لي أحد الرهبان وكان أكثرهم إجادةً للغة الإنجليزية: ما هي تعاليم دينكم؟
قلت له: تعاليم ديننا شبيهة بتعاليم دينكم، ولكن نحن نتبعها كاملة، وأنتم اختصرتموها.
قال: وكيف ذلك؟
قلت له: الوصايا التي لديكم بخصوص احترام حقوق الإنسان، بما فيها عدم القتل واحترام حق الجار والعطف على المسكين، موجودة في تعاليم كل ديانة على وجه الأرض، بما فيها الهندوسية واليهودية والنصرانية، وهي في الإسلام أيضاً. لكن الفرق بين الإسلام وباقي الديانات، أن باقي الديانات همشت الوصية الأولى وتغاضت عنها، وأبقت على الباقي.
قال: وما هي الأولى؟
قلت له: الإيمان بإله واحد أحد، والذي يُلجأ إليه عند الشدائد.
قال: أتقصدين غواتاما بوذا؟
قلت له: لا. أنا أقصد الحقيقة الوحيدة والقوة التي في السماء، خالق بوذا وكل البشر، والذي يلجأ إليه الجميع حين تنقطع بهم السبل، ويستنفدون كل الوسائل لنجاتهم من الأزمات.
قلت له مستطردة: ألا يلجأ البوذي عند خوفه الشديد من صوت الرعد، إلى القوة التي في السماء لطلب الحماية؟
قال: نعم. ولكن ما الدليل أن هذه كانت من ضمن الوصايا التي نتبعها؟
قلت له: الدليل أنكم تمارسونها دون أن تشعروا، ودون أن تكتبوها في كتبكم. وقد علمكم بوذا الإسلام بإقراره أن الموت حق، وإعطائه وصف للحياة الأبدية التي لا موت فيها ولا ألم، وهي ما تُطلقون عليها اسم ” نيرفانا”.
يقول أحد العلماء المشهورين “آرثر ليلي”: إن
الكلام التالي كان منحوت على حجر: (ما كان يعتقد به تلاميذ بوذا عن الإله، الروح
ومستقبل الإنسان).
“نعترف
ونؤمن بالله، الذي هو كائن يستحق من أجل هذا (إيمان) “[19].
قال: لكن بوذا إله.
قلت له: وهل يقول إله عن نفسه، أنا لست أول بوذا ولن أكون آخر بوذا [20]؟
لم يطالب “غواتاما بوذا” أياً من أتباعه لأن يعبدوه هو كإله أو عبادة أي شيء أو أي شخص آخر، فالطريق الديني الذي انتهجه وسار عليه كان نفس الطريق الذي سار عليه بوذا آخر وتنبأ به من قبل. كما أن “غواتاما” استخدم كلمة “بوذا” بسياق كلمة “نبي” وعنى بذلك الشخص الذي يتم تنويره بالوحي الإلهي.
بوذا قال: “يجب على الجميع أن يُؤمنوا بـ (مايتريا) النبي القادم”[21].
تحمل كلمة “مايتريا” أو “ميتا” في اللغة البالية وجميع الكلمات المقابلة المستخدمة في البورمية والصينية والتبتية واليابانية نفس المعنى؛ وهي نفس كلمة “رحمت” باللغة العربية، والتي تعني “الرحمة”[22]. (حيث أشار الله سبحانه في القرآنَ الكريم إلى النبي محمد بأنه رحمة للعالمين).
“وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. (الأنبياء: 107)
قال: عجيب! أوَ تُجزمون أن بوذا كان نبيًّا مُرسل، وتنبأ بقُدوم نبيكم؟
قلت له: نحن لا نُجزم أبداً، ولم يُذكر اسم بوذا أبداً في القرآن الكريم، لكن نرى أن هناك تشابهات بين الديانات بصورة ملفتة للنظر، مما لا يُستبعد ان يكون مصدرها واحد وهو من الخالق، وقد اختلفت بسبب تحريفات البشر. وقد أكد القرآن في أكثر من مُناسبة أن الله أرسل إلى جميع الأمم رسلاً وأنبياء للتذكير بعبادة خالق واحد أحد، وذكر أسماء البعض، ولم يذكر آخرون.
قال: وهل من دليل على نبوة محمد في كُتب الهندوسية أيضاً.
قلت له: نعم.
“إنه نيراشانزا أو الشخص الممدوح (محمد) إنه كاراما: أمير السلام أو المغترب، وهو آمن، حتى بين مجموعة من ستون ألف وتسعون من الأعداء. إنه يركب الجمال، وتمس مركبته السماء”[23].
” نيراشانزا” رجل الحمد” يشير إلى النبي محمد. المعنى الفعلي للكلمة العربية “محمد” هو: “الرجل المحمود”، وليس من المعروف بالضبط عدد أعداء النبي محمد في ذلك الوقت، ولكن ثبت أن هناك الآلاف.
عندما هاجر النبي محمد من مكة (المدينة التي وُلد فيها، لكنه اضطر إلى المغادرة بسبب مؤامرة اغتياله) إلى المدينة المنورة، ذهب على الجمل.
قلت له مستطردة: ويوجد غيرها الكثير[24].
“قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” .(الأعراف: 158)
وقد انتهت الزيارة، وطلبوا تزويدهم بنسخ ترجمات معاني القرآن باللغة التايلاندية، وشكرونا كثيراً.
قال الفيلسوف الإنكليزي توماس كارليل (1881-1795): “لقد
أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدن من أبناء هذا العصر أنْ يُصغي إلى ما يظن،
من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا خداع، وأن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه
الأقوال السخيفة المخجلة، فإنَّ الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج
المنير، مدة اثني عشر قرنًا لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي
خلقنا. وهل رأيتم قطُّ معشر الإخوان أنَّ رجلاً كاذبًا يستطيع أن يُوجِد دينًا
وينشره؟ عجبًا والله، إنَّ الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب، فهو إذًا
لم يكن عليمًا بخصائص الجير والجص والتُّراب وما شاكل ذلك، فما ذلك الذي يبنيه بيت
وإنَّما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد، نعم وليس جديرًا أنْ يبقى على
دعائمه اثني عشر قرنًا يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه،
فينهدم فكأنه لم يكن”[25].
[1] كتاب – الأحاديث مع الجدول-كلام النبي محمد 1893.
[2] ” إنجيل يوحنا “15/26 – 16/14.
[3] من كتاب عين على الحقيقة. فاتن صبري.
[4] من كتاب عين على الحقيقة. فاتن صبري.
[5] “أشعياء “29: 12.
[6]” يوحنا “1: 19-21.
[7] http://www.aqsaonline.org/news.aspx?id=5664#_ftn6
[8] “المزامير 84”.
[9] كتاب “محاسن الإسلام”.
[10] كتاب “محاسن الإسلام”.
[11] الحديقة مجموعة أدب بارع وحكمة بليغة. سليمان بن صالح الخراشي.
[12] “إنجيل متى” 10: 34.
[13]” سفر اللاويين “20: 10 – 18.
[14] إنجيل متى 5: 27– 30.
[15] 1 كورنثوس 6: 9 – 10.
[16] إنجيل يوحنا 8: 3 – 11.
[17] إنجيل لوقا 16: 17.
[18] https://www.alukah.net/sharia/0/82804/
[19]اقتباس من كتاب “الهند في المسيحية البدائية” ، صفحة 85.
[20] Gospel of Buddha by Carus pg.217 and 218 (from Ceylon sources)
[21] “Arshagyanam” (Page282)
[22] Prophecy on The Coming of Prophet Muhammad (SAW) in Other Scriptures – Zakir Naik
[23] Atharva Veda، Book (Kuntap Sukta) book 20 Hymn 127 verses 1-2
[24] المفهوم الحقيقي للإله. فاتن صبري.
[25] كتاب “الأبطال”.