ولا تَنْسَ نَصيبكَ مِنَ الدُّنْيا:
في زيارة لنا لدولة الصين، قمنا بزيارة لحديقة “نافذة على العالم”، وهي عبارة عن حديقة عامة تمتد على مساحات شاسعة، وتضم مجسمات متراصة في توزيع متقن لأبرز مزارات العالم، حيث نجد في ركن من الحديقة مثلاً، مُجسماً لضريح “تاج محل” الهندي الشهير، وخلفه تماماً مُجسم لبرج “ايفل”، وعلى مقربة منهما نجد نموذجاً لساعة “بيغ بن” أيقونة لندن، وفي جانب آخر من الحديقة مُجسماً آخراً لأهرامات مصر، وفي جزءٍ آخر نجد مسقطاً مائياً هائلاً تنهمر مياهه محاكيةً “شلالات نياجرا” الأمريكية. وتُعطي هذه الزيارة الفرصة لتذوق أكل الطعام اللاتيني مثلاً ولبس أزياء شرق آسيا ومُعايشة التقاليد الأفريقية. مَوقع يأخذ بالألباب ويُعطي الفرصة لاكتشاف العالَم بأسره.
ووسط ذهولي وفرحة أبنائي، وقِيام زوجي بالتقاط الصور التذكارية، تذكرت سُؤالاً كُنت أردده كثيرا في صِغري، وهوعن إمكانية تحقيق التوازن بين التعرف على ثقافات وحضارات العالم وتحقيق مُتع الدنيا، والحرص على الفوز في الآخرة في الوقت نفسه، وحينها تذكرت الآية الكريمة، ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ “[1]، وسُعدت كثيراً.
أُمةً وَسطاً:
الفيلسوف النِّمساوي ليوبولد فايس – الذي ترك اليهودية واعتنق الإسلام وغيَّر اسمه لمُحمد أسد – قال في كتابه “الإسلام على مُفترق الطُّرق”:
“إنَّ سفرنا في هذا العالم أمرٌ ضروري، وجزءٌ إيجابيٌّ من سُنة الله، من أجل ذلك كان لحياة الإنسان قيمةٌ عُظْمى، ولكن يجب ألاَّ ننسى أنها قيمةُ الواسطة إلى غاية فقط، وليس هنالك مجالٌ في الإسلام لتعظيم الجانب المادِّي، كما هو في الغَرْب الحديث، الذي يقول: مملكتي في هذا العالَم فقط، ولا احتقار الحياة الذي يَجري على لسان النصرانية: إن مملكتي ليستْ في هذا العالَم. إنَّ الإسلام يتخيَّر في ذلك طريقًا وسطًا، ولذلك يُعلِّمنا القرآن أن ندعو فنقول ” رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [2]“، وهكذا نرى أنَّ قَدْر هذا العالم وما فيه من مَتاع، لا يقف حَجَر عثرة في سبيل جهودنا الرُّوحية. إنَّ النجاح المادي مرغوبٌ فيه، ولكنَّه ليس غايةً في نفسه، فعلى كلِّ مسلم أن ينظر إلى نفسِه على أنَّه مسؤول شخصيًّا عن نشْر السعادة حولَه، وأن يسعى إلى إقرار الحقّ، وإزهاق الباطل في كلِّ زمان ومكان، ومِصداقَ ذلك الآية: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر “.
وقال الفيلسوف النمساوي بما معناه أيضاً:
“إنَّ الحرص على انتشار الإسلام لم يحثَّ عليه حبُّ السيطرة، وليس فيه شيء من الأنانية الاقتصادية أو القومية، ولا الطمع في زيادة أسباب رفاهيتنا الخاصَّة على حساب شعبٍ آخر. ولم يُقصَد منه في يوم من الأيام إكراه غير المؤمنين على الدُّخول في الإسلام، لقد قُصِد به دائمًا ما يُقصَد به اليوم من بناء إطار عالمي لأحْسَن ما يمكن من التطوُّر الرُّوحي للإنسان، إنَّ المعرفة بالفضائل – حسبَ تعاليم الإسلام – تفرِض على الإنسان مِن تلقاء نفسِه العمل بالفضائل، وأمَّا الفصل الأفلاطوني بين الخير والشر، من غيْر الحثٍّ على زيادة الخير، ومَحو الشرِّ، فإنه فِسْق عظيم”.
إن من أحد الأسباب التي تدعو الناس للنفور مِن الدين و اللجوء الى الأخذ بالعِلم وحده، هو وجود تناقضات في بعض المفاهيم الدينية عند بعض الشعوب، لذلك فإنه من أهم السمات والأسباب الرئيسية التي تدعو الناس إلى الإقبال على الدين الصحيح، هو وسطيته وتوازنه. وهذا ما نجده بوضوح في الدين الاسلامي.
إن مشكلة الديانات الأخرى، والتي نشأت من تحريف الدين الصحيح الواحد:
إما أن تكون روحية صِرفه. وتُشجع أتباعها على الرهبانية والانعزال.
وإما أن تكون مادية بحتة.
وهذا ما تسبب في صرف كثير من الناس عن الدين عموماً في كثير من الشعوب وأصحاب المِلل السابقة.
لا تَغْلوا في دينِكُمْ:
إن التطرف، التشدد والتعصب، ما هي إلا صفات قد نهى عنها الدين الصحيح أساساً. وقد دعا القرآن الكريم في آيات كثيرة للأخذ باللطف والرحمة في التعامل، والأخذ بمبدأ العفو والتسامح.
” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” .( آل عمران: 159)
“ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النحل: 125)
الأصل في الدين هو الحلال، باستثناء بعض المُحرمات المَعدودات التي ذُكرت بِوضوح في القرآن الكريم والتي لا يختلف عليها أحد.
“يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(33)”. (الأعراف :31 – 33)
إنَّ ما يدعو إلى التطرف والتشدد أو التحريم بغير دليل شرعي، نَسبهُ الدين الى أفعال شيطانية، والدين منها برئ.
“ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)”. (البقرة: 168-169)
“ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا” (النساء : 119)
يُريدُ الله بِكُمْ اليُسًر:
إن الدين في الأصل يأتي ليُخفف عن الناس كثيراً من القيود التي يفرضونها على أنفسهم. ففي الجاهلية وقبل الإسلام على سبيل المثال، كانت فد انتشرت مُمارسات بغيضة كوأد البنات وتحليل أنواع من الطعام للذكور وتحريمها على الإناث، وحرمان الإناث من الميراث، إضافة إلى أكل المَيتة والزنا وشُرب الخمور وأكل مال اليتيم والرِّبا وغيرها من الفواحش.
كما نجد عند بعض الشعوب الأخرى كثيراَ من التشريعات والأحكام والمُمارسات الخاطئة، والتي نُسبت إلى الدين، كذريعة لإجبار الناس عليها، والتي انحرفت بهم عن طريق الصواب، وعن مفهوم الدين الفِطري، وبالتالي فَقَدَ كثيرٌ من الناس القُدرة على التفريق بين المفهوم الحقيقي للدين والذي يُلبي الحاجات الفطرية للإنسان والتي لا يختلف عليها أحد، وبين القوانين الوضعية والتقاليد والعادات والممارسات الموروثة من قِبل الشعوب، مما أدى لاحقاً إلى المطالبة باستبدال الدين بالعِلم الحديث.
إن الدين الصحيح هو الذي يأتي للتخفيف عن الناس ورفع المُعاناة عنهم، وليَضَع الأحكام والتشريعات التي تهدف بالدرجة الأولى التيسير على الناس.
“…..يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ …..”. (البقرة: 185)
” يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا”. (النساء :28)
“…..وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” . (النساء:29)
” …..وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”. (البقرة: 195)
“….وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ …” ( الأعراف: 157)
وقوله عليه الصلاة والسلام:
“يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا “[3].
وأذكر هنا قصة الثلاثة رجال الذين كانوا يتحادثون فيما بينهم، حيث قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله إليهم فقال: “أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغِبَ عن سنّتي فليس منّي”.[4]
“وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”. (الأنبياء: 107 )
وَ وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لعبد الله بن عمرو وقد بلغه أنه يقوم الليل كله، ويصوم الدهر كله، ويختم القرآن في كل ليله فقال:” فلا تَفْعَلْ، قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأَفْطِرْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا” .
ويقول الفيلسوف محمد أسد النمساوي أيضاً:
“نحن نعدُّ الإسلام أسمى من سائر النُّظُم المدنية؛ لأنه يشمل الحياةَ بأسرها، إنَّه يهتم اهتمامًا واحدًا بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد وبالمجتمع، إنَّه لا يُحملنا على طلب المُحال، ولكنَّه يَهدينا إلى أن نستفيد أحسنَ الاستفادة ممَّا فينا من استعداد، وإلى أن نصل إلى مستوى أسمى من الحقيقة، حيث لا شِقاقَ ولا عداءَ بين الرأي وبين العمل، إنه ليس سبيلاً بين السُّبُل، ولكنَّه السبيل. وإنَّ الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاديًا من الهُداة، ولكنَّه الهادي، فاتِّباعه في كلِّ ما فعل وما أمر، اتِّباعٌ للإسلام بعينِه، وأما طرح سُنَّته، فهو طرح لحقيقةِ الإسلام. ويقول أيضًا: ومِن بين سائر الأديان نجدُ الإسلامَ وحدَه يُتيح للإنسان أن يتمتَّع بحياته الدنيا إلى أقْصى حدٍّ، من غير أن يضيع اتجاهه الرُّوحي دقيقةً واحدة، وهذا يختلف كثيرًا عن وجهة النظر النصرانية”.
التوازن في إعطاء الحقوق:
وأذكر هنا حوار طريف لي مع زائرة لاتينية كانت قد سألتني قائلة: هل بمقدور المرأة المسلمة أن ترتدي أقراط في أذنيها كبقية النساء. وقد أضحكني بشدة هذا السؤال وقُلت لها: المرأة المُسلمة مِن البشر، لا تختلف عن نسائكم، لكنها فَطِنة، وتستطيع أن تُميز بين الحقوق والواجبات وإعطاء الأوليات، وعمل التوازن في تطبيق هذه المُصطلحات بصورة مُذهلة، والتي قد عجزت المرأة اللاتينية والغربية عن القيام به.
قالت: ماذا تقصدين؟
قلت لها: المرأة المسلمة فهمت مُصطلح” الخصوصية ” جيداً، فعندما أحبت أبيها وأخيها وابنها وزوجها، فهمت أن حب كلاً منهم له خصوصية، فحبها لزوجها وحبها لأبيها أو أخيها يتطلب منها إعطاء كلَّ ذي حق حقه. فحق والدها عليها من الاحترام والبر ليس كحق ابنها من الرعاية والتربية وهكذا. فهي تفهم جيداً متى وكيف ولمن تُبدي زينتها، فهي لا ترتدي في لقاءها مع الغريب كما ترتدي مع القريب، ولا تَظهر بنفس الهيئة للجميع.
قلت أيضاً: المرأة المُسلمة هي امرأةُ حُرة، رفضت أن تكون أسيرة لأهواء غيرها وللموضة، ترتدي ما تراه مناسبٌ لها ويُسعدها هي، ويُرضي خالقها، انظري كيف أصبحت المرأة في الغرب أسيرةً للموضة ودور الأزياء، إن قالوا مثلاً أن الموضة هذا العام هي لبس البنطال القصير الضيِّق، تسارعت المرأة لارتدائه، بغض النظر عن ملاءمته لها أو حتى شعورها بالراحة عند ارتدائه مِن عَدمِه.
قلت لها مسترسلة: إنه لا يُخفيكِ وضعها عندما تحولت إلى سِلعة، ويكاد لا يخلو إعلان أو منشور من صورة امرأة عارية، مما يُعطي رسالة غير مباشرة للمرأة الغربية بقيمتها في هذا العصر.
إن بإخفاء المرأة المسلمة لزينتها، تكون هي التي قد أرسلت رسالة للعالم، وهي: أنها إنسانة ذي قيمة، مُكرَّمة من الله، ويجب على من يتعامل معها، أن يحكم على عِلمها، ثقافتها، قناعاتها وأفكارها، ليس على مفاتن جسمها.
قالت: عجيب! هذا يُدعى لدينا بالإتيكيت.
قلت لها: نعم، والمرأة المسلمة فهمت أيضاً الطبيعة البشرية التي خلق الله الناس عليها، فهي لا تُظهر زينتها للغرباء لحماية المجتمع وحماية نفسها من الأذى، ولا أظنك تُنكرين حقيقة أن كل فتاة جميلة مُفتخرة بإظهار مَفاتنها للعلن، عندما تصل لسن الشيخوخة تتمنى لو أن كل نساء العالم ارتدين الحجاب.
قالت: هذا صحيح 100%
قلت لها متسائلة: هل قرأتِ عن احصائيات مُعدلات الوفاة والتشويه الناجمة عن عمليات التجميل؟ ما الذي دفع المرأة لأن تُقاسي كل هذا العذاب؟ لأنهم أجبروها على خوض مسابقة الجمال الجسدي عِوضاً عن الجمال الفكري، مما أخسرها قيمتها الحقيقية بل وحياتها أيضاً.
قالت: جميل جداً، هذه فلسفة عجيبة لم أسمع عنها من قبل.
وقالت: حسناَ وهل حقق الإسلام للمرأة المُساواة مع الرجل؟
قلت لها: المرأة المُسلمة تبحث عن العدالة ولا تبحث عن المساواة، فمساواتها بالرجل تُفقدها كثيراً من حُقوقها وتميزها.
قالت: عجيب! وكيف ذلك؟
قلت لها: لنفترض أن لديك ابنان، أحدها يبلغ من العمر 5 سنوات والآخر 18 سنة. وأردتِ شراء قميص لكلِّ منها، فالمُساواة هنا تتحقق في أن تشتري لهما القميصين بنفس المقاس، مما يتسبب في مُعاناة أحدهما، لكن العدالة أن تشتري لكل واحد منهما مَقاسه المناسب، وبالتالي تتحقق السعادة للجميع.
قلت لها مُستطردة: تُحاول المرأة في هذا الزمن إثبات أنه بإمكانها أن تفعل كل ما يفعله الرجل. غير أنه في الواقع، المرأة تفقد تفردها وامتيازها في هذه الحالة. فإن الله خلقها لتقوم بما لا يُمكن أن يقوم به الرجل. لقد ثبت أن آلام الوضع والإنجاب من أكثر الآلام شدةً، وجاء الدين ليُعطي المرأة التكريم المطلوب مُقابل هذا التعب، ويُعطيها الحق بعدم تحملها لمسؤولية النفقة والعمل، أو حتى أن يتقاسم زوجها معها مالها الخاص كما هو الحال لديكم. وفي حين لم يُعطي الله الرجل القوة على تحمل آلام الولادة، لكن أعطاه القُدرة على صُعود الجبال مثلاً.
قالت: لكنني أحب أن أصعد الجبال، وأستطيع فِعل ذلك كالرجل تماماً.
قلت لها: حسناً، بإمكانك أن تصعدي الجبال كالرجل وتعملي وتكدّي، لكن في النهاية أنتِ من سيضع الأطفال أيضاً، ويقوم برعايتهم وإرضاعهم، فالرجل في كل الأحوال لا يستطيع القيام بهذا، وهذا مجهود مُضاعف عليكِ، كان بإمكانك تفاديه.
مما لا يعرفه الكثيرون، هو أنه إذا أرادت امرأة مسلمة المطالبة بحقوقها من خلال الأمم المتحدة، والتنازل عن حقوقها في الإسلام، فستكون خسارة لها، لأنها تتمتع بحقوق أكثر في الإسلام. فالإسلام يُحقق التكامل الذي خُلق من أجله الرجل والمرأة مما يُوفر السعادة للجميع.
إحسان الحضارة الإسلامية:
أخبرتني يوماً زائرة من دولة كولومبيا وزميلتها في العمل، عن رغبتهما الشديدة بعبادة الله وحده، لكنهما لا تستطيعان التخلص من رغبتهما في ذكر السيدة مريم أُمّ المسيح عيسى في الدعاء، حيث أنهما لا تُريدان بخس حق السيدة مَريم عليهما.
قلت لهما: المُسلم يستطيع تحقيق التوازن في عِبادته، دون أن يبخس النبي أو أُمّ النبي حقهما.
قالتا: كيف؟
قلت لهما: المُسلم أحب خالقه وأعطاه حقه في عبادته وحده، ومحبة المُسلم للرسول، تكون باتباع المنهج الذي جاء به الرسول من عند الله، وهو عبادة الخالق كما فعل الرسول، وليس عبادة الرسول نفسه.
قلت لهما مُتسائلة: ما هي العبارات التي تستخدمانها في الدعاء إلى الله والتي تشتمل على اسم السيدة مريم ولا تستطيعان التخلص منها؟
قالت الأولى: الله يُبارك في مريم ويُساعدها.
قلت لها: هذا صحيح وسليم، فإننا نقول صلى الله على النبي محمد، وعيسى عليه الصلاة والسلام، ومريم كذلك.
قالت الأخرى: نقولُ أيضاً، يا مريم باركيني وساعديني.
قلت لها: هذا غير صحيح.
قالتا وما الفرق؟
ققلت لهما: في الدعاء الأول طلب للسيدة مريم وفي الثاني طلب منها، ولا يحق الطلب إلا من الله. فباستطاعتكما، التمسك في الصيغة الأولى للدعاء، ولكن عليكما التوقف عن استخدام الصيغة الثانية.
ابتهجتا الزائرتين كثيراً، لأنهما وجدتا أن عبادتها لله مباشرة لن تجعلهما يتركان ذكر السيدة مريم. وطلبتا اعتناق الإسلام مُباشرةً.
إننا نجد أن كثيراً من الأمم والحضارات فشلت في تحقيق هذا التوازن، فبينما رفعت أُمَّة عيسى عليه السلام قدر عيسى عليه السلام وأمه الصديقة مريم إلى درجة الألوهية، كان قد رفض أتباع موسى عليه السلام الاعتراف بعيسى كرسول، فجاء المُسلم وحقق التوازن المَطلوب، وآمن بعيسى واحترمه وقدَّره، وذلك بتصديق رسالته الصحيحة وعبادة الله كما عبد جميع الأنبياء الله.
إن الحضارة الإسلامية قد أحسنت التعامل مع خالقها، ووضعت العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في المكان الصحيح، في الوقت الذي أساءت فيه الحضارات البشرية الأخرى التعامل مع الله، فقد كفرت به، وأشركت معه مَخلوقاته في الإيمان والعبادة، وأنزلته منازل لا تتلاءم مع جلاله وقدره.
والمسلم الحق لا يخلط بين الحضارة والمدنية، فينهج منهج الوسطية في تحديد كيفية التعامل مع الأفكار والعلوم، والتمييز بين العنصر الحضاري، المتمثل بالشواهد العقائدية، العقلية، الفكرية، والقِيم السلوكية والأخلاقية، وبين العنصر المدني، والمتمثل في الإنجازات العلمية، والاكتشافات المادية، والمُخترعات الصناعية، فإنه يأخذ من هذه العلوم والاختراعات، في إطار مفاهيمه الإيمانية والسلوكية.
فالحضارة اليونانية تُؤمن بالله، ولكنها تُنكر صفة الوحدانية والوجود له، وتصفه بأنه لا يعمل ولا يُريد.
والحضارة الفارسية قبل الإسلام، كفرت بالله وعبدت الشمس من دونه وسجدت للنار وقدَّستها.
والحضارة الهندوسية، تركت عبادة الخالق وتعبد الإله المخلوق، والمُتجسد بالثالوث المقدس، والمتكون من ثلاث صور إلهية: الإله ” براهما” في صورة الخالق، والإله “فشنو” في صورة الحافظ، والإله ” سيفا” في صورة الهادم.
والحضارة البوذية تتنكر للإله الخالق، وجعلت من بوذا المخلوق إلهاً لها.
وحضارة الصابئين، كانوا من أهل الكتاب وتنكروا لربهم، وعبدوا الكواكب والنجوم.
ومع بلوغ الحضارة الفرعونية درجة كبيرة من التوحيد والتنزيه للإله في عهد أخناتون، إلا أنها لم تتخل عن صور التجسيم والتشبيه للإله ببعض مخلوقاته كالشمس وغيرها، فكانت رمزاً للإله. وقد بلغ الكُفر بالله ذروته عندما ادعى فرعون في زمن موسى الألوهية من دون الله، وجعل من نفسه المُشرع الأول.
وحضارة العرب التي تركت عبادة الخالق وعبدت الأصنام.
والحضارة النصرانية كما ذكرنا كفرت بوحدانية الله، وأشركت به المسيح عيسى وأمه مريم، وتبنت عقيدة التثليث وهي الإيمان بإله واحد متجسد في ثلاثة أقانيم (الآب، الابن، الروح القدس)
والحضارة الرومانية التي تنكرت للخالق بدايةً، وأشركت به عند اعتناقها النصرانية، حيث دخلت عقائدها مَظاهر الوثنية، من عبادة الأوثان ومظاهر القوة.
والحضارة اليهودية التي تنكرت لخالقها، واختارت إلهاً خاصاً بها، وعبدت العجل، ووصفوا الإله في كتبهم بصفات بشرية غير لائقة به.
وكانت قد اضمحلت الحضارات السابقة، وتحولت الحضارة اليهودية والنصرانية إلى حضارتين لا دينيتين، وهما الرأسمالية والشيوعية. ووفقاً لأساليب تعامل هاتين الحضارتين مع الله والحياة عقائدياً وفكرياً، فإنهما مُتخلفتين وغير مُتقدمتين، ويتسمان بالوحشية وغير الأخلاقية، مع وصولهما الذُروة في التقدم المدني، والعلمي والصناعي، لكن ليس بهذا يُقاس تقدم الحضارات.
إن معيار التقدم الحضاري السليم، يستند إلى شواهده العقلية، والفكرة الصحيحة عن الله والإنسان والكون والحياة، والتحضر الصحيح الراقي، هو الذي يُوصِل إلى المفاهيم الصحيحة عن الله وعلاقته بمخلوقاته، ويضع هذه العلاقة في مكانها الصحيح. وبالتالي نصل إلى أن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة المُتقدمة بين هذه الحضارات، لأنها ببساطة حققت التوازن المطلوب.
الإسلام دين ودولة:
رَسَمَت الرأسمالية منهجاً حراً للإنسان، وَدَعَتْهُ للسير على هديه، حيث ادعت الرأسمالية أن هذا المنهج المنفتح هو الذي سيوصل الإنسان للسعادة الخالصة، لكن الإنسان وجد نفسه في نهاية المطاف يقبع في مجتمعاَ طبقياً، فإماغِناً فاحشاً يقوم على الظلم للغير، أو فقراً مُدقعاً للمُلتزم أخلاقياً.
وجاءت الشيوعية فألغَتْ كل الطبقات، وحاولت أن ترسم مبادئ أكثر صلابة، لكنها خلقت مُجتمعات أكثر فقراً وألما، وأكثر ثورية من غيرها.
وأما الإسلام فقد حقق الوسطية، وكانت الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، فقدمت للإنسانية نظاماً عظيماً بشهادة أعداء الإسلام. لكن هناك من المسلمين من قَصَّروا في الالتزام بقيم الإسلام العظيمة.
وكان قد سألني يوماَ دبلوماسي فرنسي عمّا اعتبره تناقضاَ غير مفهوم. حيث قال:
أنا لا أفهم كيف يكون الدين الإسلامي حسب وصفكِ لي بهذه المنطقية، في حين يخوض كثير من المسلمين في هذه العشوائية وقد ابتعدوا عن النظام والأخلاق. أليس هذا تناقض؟
قلتُ له: وأين التناقض هنا؟ وهل ارتكاب سائق سيارتك الفخمة حادث مُروّع لجهله بأصول القيادة السليمة، يُناقِض حقيقة فخامة السيارة؟
فعلَّق فوراَ مُرافقه الخاص وقد كان فرنسياَ من أصول عربية قائلاً: فعلاً المُسلم الفاشل لا يُمثل إلا نفسه. وقد تحدث الكثيرون عندما وجدوا أخلاق الإسلام تُمارَس من قِبل غير المسلمين، حيث قالوا: وجدنا الإسلام ولم نجد المسلمين.
المُستشرق والباحث الألماني في الدراسات العربية والإسلامية “شاخت جوزيف”، وعلى الرغم من تطرفه في بعض آرائه، إلا أنه لم يستطع إلا القول بالحق في تقييمه للدين الإسلامي، فكان مما قال:
“تميز الإسلام بأنه دين ودولة، وتميزت الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي بتأثيره بقوة في الثقافات القانونية التي جاوزته أو اتصلت به ، وكانت سلطتها فوق سلطة الدولة. إن النزاع بين الدين والدولة اتخذ أشكالا مختلفة، ففي المسيحية كان هناك صراع من أجل السلطة السياسية من جانب هيئة كنسية منظمة تنظيما متدرجا ومتماسكا، ينتهي إلى رئاسة عليا، كان يُعتبر القانون الكنسي أحد أسلحتها السياسية. أما في الإسلام، فلم يكن هناك قط ما يُشبه “الكنسية”. فالشريعة الإسلامية لم تستند مُطلقا إلى تأييد قوة منظمة، وعلى ذلك فلم ينشأ قط في الإسلام اختبار حقيقي للقوى بين الدين والدولة، وظل المبدأ القائل بأن الإسلام هو دين ينبغي أن يُنظم الناحية القانونية في حياة المسلمين، قائما لا يتحداه أحد”.
ومن بعض الآراء للمُستشرق “شاخت”:
“إن من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني، الذي يسمى “الشريعة”، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافا واضحا عن جميع أشكال القانون. إن الشريعة الإسلامية هي أبرز ما يُميز أسلوب الحياة الإسلامية، وتفرده يعود لنظرته لجميع أفعال البشر، وعلاقاتهم بعضهم ببعض، بما في ذلك ما نُعده قانونا على اساس المفهومات التالية: الواجب والمندوب والمتروك والمكروه والمحظور”.
ويقول “شاخت”:
“لقد أثر التشريع الإسلامي تأثيرا عميقا في جميع فروع القانون عند أهل الديانات الأخرى، من اليهود والنصارى، والذين شملهم تسامح الإسلام وعاشوا في الدولة الإسلامية. فاليهودي موسى بن ميمون (601هـ – 1204م) قد تأثر ببعض ملامح المؤلفات الإسلامية في تنظيمه للمادة القانونية في مُدونته (مِشنة توراة) وهو عمل لم يسبقه إليه أحد من اليهود، ولم يتردد اليعاقبة والمونوفيزية [5]– أصحاب الطبيعة الواحدة – والنسطوريون في المسيحية [6] في الاقتباس من قواعد التشريع الإسلامي [7] “.
وقال المؤرخ الهولندي رينهاردت دوزي في كتابه “نظرات في تاريخ الإسلام”:
“لقد كان غالبية النصارى في الشرق ينتمون إلى مذاهب متعددة، كانت قد لَقِيَت من اضطهاد حكومة القسطنطينية وإعناتها ما أرهق أصحابَها إرهاقًا، فلما جاء الإسلام – ومن طبيعته التسامح والإخاء – ترك لهم الحرية التامَّة في البقاء على دينهم، وظَلَّلهم بحمايته، وساوى بينهم في الحقوق على اختلاف مَذاهبهم، وبما أنَّهم كانوا مضطرين إلى دفع ضرائب فادحة للإمبراطور الرُّوماني، فقد أعفاهم الإسلام منها، ولم يفرض عليهم إلا جِزية مُعتدلة لا تُرهق أحدًا”.
الدولة في الإسلام ليست دولة “دينية” بالمعنى المفهوم في الفكر الغربي سابقا، بل إن في المفهوم الإسلامي نَزْعٌ لكل عصمة أو قداسة لفعل البشر، وهي دولة واجبها الرئيسي خدمة مصالح الناس.
إن الانطلاق من المرجعية الاسلامية للدولة لا يُنافي إطلاقاً مفهوم الدولة المدنية أو مفاهيم الحداثة، بل يجب أن يكون سبيلا للاعتزاز بهويتنا ومكانتنا الحضارية والتاريخية.
في حواري مع أحد العلمانيين الفرنسيين يوماً، كان قد سألني قائلاً: لماذا لا يُفصل الدين عن الدولة، وتكون المرجعيات في المجتمع لرأي الانسان ووِجهة نظره فقط، كما هو الحال في الدول الغربية؟ والأخذ بالفصل التام للدين عن الدولة وحياة الناس وسلوكهم، كما في التجربة الفرنسية مثلا.
قلت له مُبتسمة: تقصد مرجعيات تعود لأهواء الإنسان ورغباته وتقلبات مزاجه! نحن في الواقع بحاجة إلى شريعة ربانية ثابتة، تُناسب الإنسان في كل أحواله، ولا تتغير بحسب الأهواء، كما فعلوا في تحليل الرِّبا والمِثلية، ولا تُكتَب من قِبل الأقوياء لتكون ثِقلا على المُستضعفين كما في النظام الرأسمالي، ولا شيوعية تُعارض الفطرة في الرغبة في التملك.
قلتُ له مُستطردة: التجربة الفرنسية جاءت كردة فعل على تسلُط وتحالف الكنيسة والدولة على مُقدرات الشعب وعقولهم في العصور الوسطى. العالم الإسلامي لم يُواجه هذه المشكلة قط، نظراً لعَملية ومَنطقية النظام الإسلامي.
قال: إذاَ فإنكم لا تعترفون في الديمقراطية.
قلت له: لدينا ما هو أفضل من الديمقراطية، لدينا الشورى.
قال: وما الفرق؟
قلت له: الديمقراطية هي عندما تأخذ رأي جميع أفراد أُسرتِك بعين الاعتبار مثلاَ، في قرار مصيري يخص الأُسرة، بغض النظر عن خبرة هذا الفرد أو عُمره أو حكمته، من طفل في رياض الأطفال إلى الجد الحكيم، وتُساوي بين آرائهم في اتخاذ القرار. أما الشورى فهي تُوجهك لاستشارة كبار السن والمقام، وأصحاب الخبرة لما يَصلُح أو لا يَصلُح.
قلتُ له مُعقبة: الفرق واضح جداً، وأكبر دليل على الخلل بالأخذ بالديمقراطية، هو إعطاء الشرعية في بعض الدول لتصرفات، هي في حد ذاتها مُخالفة للفطرة والدين والأعراف والتقاليد، مثل المِثلية الجنسية والرِّبا وغيرها من المُمارسات المقيتة، لمُجرد الحصول على الأغلبية في التصويت، وبكثرة الأصوات التي تنادي بالانحلال الأخلاقي، كانت الديمقراطية قد ساهمت في خلق مُجتمعات لا أخلاقية.
قلت له أيضاً: إن الفرق بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية، هو خاص بمصدر السيادة في التشريع، فالديمقراطية تجعل السيادة في التشريع ابتداءً للشعب والأمة، أما الشورى الإسلامية فإن السيادة في التشريع ابتداءً هي لله سبحانه وتعالى، تجسدت في الشريعة، وهي ليست إنتاجاً بشرياً، وما للإنسان في التشريع إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، وكذلك له سلطة الاجتهاد بما لم يَنزِل فيه شرع سماوي، شريطة أن تظل السُّلطة البَشرية مَحكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي.
قال: قال: التشريع الإسلامي فريد من نوعه، فبالرغم من أنه قانون ديني، إلا أنه من حيث الجوهر لا يُعارض العقل بأي وجه من الوجوه، وهو ذو منهج منظم، يؤلف مذهبا متماسكا، ونُظمه المتعددة مترابطة بعضها مع بعض، لكنني ضد الحُدود التي وردت في القرآن.
قلت له: الحدود وُضعت للردع ولعقاب من يقصد الإفساد في الأرض، بدليل أنها تُعطَّل في حالات القتل الخطأ أو السرقة بسبب الجوع والحاجة الشديدة، وهي في الأساس لحماية المُجتمع، ومنها ما هو موجود أصلاً في القانون الفرنسي كحد الإعدام.
قال: وهل حقاَ موجود حكم الإعدام في القانون الفرنسي؟
قلت له: نعم، وموجود في كثير من القوانين الوضعية في دول أخرى.
قلت له: تخيل نفسك تعود لمنزلك وتجد أفراد أُسرتك قد قُتلوا على يد أحدهم بهدف السرقة أو الانتقام مثلاً، وجاءت السُلُطات لتقبض عليه وتحكم عليه بالسجن لمدة معينة، طويلة كانت أو قصيرة، يأكل فيها وينتفع بالخدمات الموجودة في السجون، والتي تُساهم بتوفيرها أنت بنفسك عن طريق دفع الضرائب.
قلت له مُستطردة: ماذا سوف تكون ردة فعلك في هذه اللحظة؟ سوف ينتهي بك الأمر للجُنون، أو الإدمان على المخدرات لتنسى آلامك. إن الموقف نفسه لو حدث في دولة تُطبق الشريعة الإسلامية، سوف يكون تصرف السُّلطات مُختلف، سوف يأتوا بالمُجرم إلى أهل المجني عليهم، لإعطاء القرار في شأن هذا الجاني، إما أن يأخذوا بالقصاص، وهو العدل بعينه، أو العفو، والعفو أفضل كما جاء في القرآن الكريم.
“وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” . (التغابن :14)
قُلت له مُسترسلة: عدد آيات القران الكريم 6348 آية، وآيات الحدود لا تتجاوز العشر الآيات، والتي وُضعت بحكمة بالغة من لدن حكيم خبير. هل تخسر فرصة الاستمتاع بقراءة وتطبيق هذا المنهج الذي تعتبره أنت فريد من نوعه، فقط لأنك تجهل الحكمة من وراء عشرة آيات؟
التَّوازُن في الاقتصاد:
وأذكر أن سألني أحد اللاتينيين المهتمين بالاقتصاد عن الفرق بين النظام الاقتصادي في الإسلام والرأسمالية والاشتراكية.
قُلت له: بخصوص حرية التملك، في الرأسمالية، الملكية الخاصة هي المبدأ العام. أما في الاشتراكية، الملكية العامة هي المبدأ العام. في الإسلام، السماح بملكيات ذات أشكال متنوعة:
الملكية العامة: وهي عامة لمجموع المسلمين مثل الأراضي العامرة.
ملكية الدولة: الثروات الطبيعية من غابات ومعادن.
ملكية خاصة: تكتسب فقط عن طريق العمل الاستثماري بما لا يُهدد التوازن العام.
قال: وماذا بخصوص الحرية الاقتصادية؟
قلت له: في الرأسمالية، تُترك الحرية الاقتصادية بلا حدود. أما في الاشتراكية، مُصادرة الحرية الاقتصادية تمامًا. أما في الإسلام، يعترف بالحرية الاقتصادية في نطاق محدود يتمثل في:
التحديد الذاتي النابع من أعماق النفس بناءً على التربية الإسلامية، وانتشار المفاهيم الإسلامية في المجتمع والتحديد الموضوعي الذي يتمثل بالتشريعات المحددة التي تمنع أعمالاً محددة مثل: الغش، والمَيسِر، والرِّبا، وغيرها.
قال: الدين كالأفيون، يتعاطاه الفقراء والمُضطهدين لقبول الظلم والمعاناة، ويتركهم يحلمون بالجنة والآخرة، ليُعطي الفرصة للأغنياء للاستحواذ على الثروات، مما تسبب بتخلف وفقر المُسلمين، وغيرهم من المتدينين.
قلت له: المُجتمعات البشرية لم تشهد الفقر والظلم الاجتماعي بسبب إيمانها أو حتى قلة الموارد لديها، ولكن بسبب بُعدها عن دينها وسوء توزيع مواردها، فالفقر المُدقع لا يظهر إلا بسبب الغِنى الفاحش.
إنه في حين ساد الاعتقاد في الرأسمالية، بعدم قدرة الموارد الطبيعية على تلبية احتياجات الإنسان المُتجددة. وتحدثت الاشتراكية بوجود التناقض بين قُوى الإنتاج وعلاقات التوزيع، كان قد بيَّن الإسلام أن الله تعالى خَلق للبشرية من الثروات الطبيعية ما يُلبي احتياجاتها جميعًا دون قصور ونفاد. وأن المُشكلة تكمُن في الإنسان ذاته بعدم استخدامه للثروات الطبيعية بشكل سليم، وعدم التزامه بعدالة التوزيع.
قلت له مُستطردة: في الواقع هو أن الدين التزام ومسؤولية، إنه يجعل الضمير مُتيقظاً، ويحث المُؤمن على مُحاسبة نفسه في كل صغيرة وكبيرة، المُؤمن مسؤول عن نفسه وأسرته وجاره وحتى عن عابر السبيل، وهو يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله، ولا أظن أن هذه من صِفات مُدمني الأفيون.
قُلت له: أفيون الشعوب الحقيقي هو الإلحاد وليس الإيمان.
ضحك وقال: لماذا؟
قُلت له: لأن الإلحاد يدعو أتباعه للمادية، وتهميش علاقتهم مع خالقهم برفضهم للدين والتخلي عن المسؤوليات والواجبات، وحثهم على الاستمتاع باللحظة التي يعيشونها، بغض النظر عن العواقب، فيفعلوا ما يحلو لهم، معتقدين بعدم وجود رقيب أو حسيب، ولا بعث أو حساب.
وسألته مُباشرة: أليس هذا وصف للمُدمنين حقاً؟
قال: نعم صحيح.
قال: وكيف حقق الإسلام التوازن الاجتماعي؟
قُلت له: إن من القواعد العامة في الإسلام، أن المال مال الله والناس مُستخلفون فيه، وألا تكون الأموال دُوَلة بين الأغنياء ويُحرِّم الإسلام كنز المال وعدم إنفاقه على الفقراء والمُحتاجين، ويُحِّرم أيضاً الكسب بدون عمل ويحث على العمل لكل قادر.
” مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ “.(الحشر : 7)
” آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ”.(الحديد : 7)
“…الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ “.(التوبة:34)
” وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”.(التوبة : 105)
وحرم الإسلام الإسراف وارتفع بمستوى الأفراد لضبط مستوى المعيشة، على أن مفهوم الإسلام للغِنى ليس تلبية للحاجات الضرورية فقط بل أن يملك الإنسان ما يأكل ويلبس ويسكن ويتزوج ويحج ويتصدق أيضًا.
“وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا”. (الفرقان : 67)
فالفقير في نظر الإسلام هو من لم يظفر بمستوى من المعيشة ما يمكِّنه من إشباع حاجاته الضرورية والكمالية حسب مستوى المعيشة في بلده، وبقدر ما يتسع مستوى المعيشة يتسع المدلول الواقعي للفقر، فإذا كان المتعارف عليه في مُجتمعٍ ما حيازة كل عائلة على َمنزل مستقل بها مثلاً، أصبح عدم حصول أسرة مُعينة على منزل مُستقل بها، يُعتبر لونًا من ألوان الفقر، وعلى هذا فالتوازن يعني إغناء كل فرد (مسلمًا كان أم ذميًا) بالقدر الذي يتناسب وإمكانيات المُجتمع في ذلك الوقت.
ويضمن الإسلام تلبية حاجات جميع أفراد المجتمع. ويتحقق ذلك من خلال التكافل العام، فالمسلم أخو المسلم وكفالته واجبة عليه ومن هنا فإن على المسلمين ألا يظهر بينهم مُحتاجاً وإلا أثموا جميعًا.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” [9].
أذكر هنا قصة جميلة أيضا لزائرة كولومبية، قد جاءت مع أبنائها المراهقين وصديقتها لزيارة المركز، وللأسف جاؤوا في وقت متأخر جداً، حيث كانت نهاية الدوام، ولم أتمكن من الإجابة على جميع أسئلتهم، وقد شرحتُ ما بوسعي خلال 15 دقيقة، لكنني شعرت أن السيدة الكولومبية تُخفي أمرا. في صباح اليوم التالي عادت السيدة وأولادها فقط بدون الصديقة وقالت لي: أنني مُصره على أن أُكمل حواري معك، لأنني عندي أسئلة تمنعني من الإسلام منذ سنوات، وأُريد أن أجد إجابة على هذه الأسئلة.
قلت لها: لا تترددي في طرح أي سؤال، أنا جاهزة للرد على أسئلتك، معي اليوم كامل.
فقالت: أنا تعرفت على صديقه مُسلمة في بلدٍ ما، خلال سفري وتنقلي مع زوجي، وأخبرتني أنه في الإسلام ليس علينا أن نذهب إلى طبيب عندما نمرض، يكفي أن ندعو الله فيُجيب دعائنا، وأنا لم أقتنع بهذه النقطة أبداً، وكانت هذه النقطة مِن النقاط التي منعتني من قبول هذا الدين، فأنا باعتقادي أننا يجب أن نأخذ بالأسباب.
فقلت لها: فِعلا للأسف أنتِ تعرفين عن الاسلام أكثر مِمّا تعرفه هذه الأخت المُسلمة، وأنَّها بحاجة لمن يشرح لها دينها، الأخت المُسلمة لم تُعطيكِ المَعلومة الصحيحة، فالإسلام دين عمل في الواقع وقال سبحانه وتعالى” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم “. والله سبحانه وتعالى يُوصينا بالتوكل وليس بالتواكل، فالتوكل يقتضي العزم وبذل غاية الطاقة والأخذ بالأسباب، ثُم التسليم بعد ذلك لقضاء الله وحُكمه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد أن يترك ناقته سائبة توكلاً على الله: اعقلها وتوكل، وبهذا يكون المُسلم قد حقق التوازن المطلوب.
فرحت الزائرة كثيراً بإجابتي وأذكر أنني أمضيت معها يوماً كاملاً في الإجابة على أسئلتها، فقالت في نهاية الحوار، أنها فوجئت قبل ستة سنوات بإسلام زوجها الذي لم يكن يعتنق أي دين من قبل، ولم يكن له اهتمامات دينية، مُبرراً لها أنه وجد أجوبة على جميع الأسئلة التي طالما دارت في خَلده، وقد دعاها للإسلام، لكنها ترددت، لأنها لا زالت لديها شُكوك واستفسارات عن نقاط كثيرة، وأخبرتني أنها ولله الحمد وجدت جميع الإجابات على أسئلتها خلال حواري معها .
الخلاصة:
أن الاسلام ينظر للحياة كما ينبغي أن تكون، إن ما يتطلع اليه الناس هو دين مُتوازن يُلبِّي الحاجات الروحية التي لا غِنى عنها، ولا يُهمِّش الحاجات المادية للإنسان. الدين يدعو إلى الوسطية، وهو المبدأ الذي شدَّد عليه الدين السماوي الخاتم الذي جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، ليُصحح الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة، والذي أدى لتشويه مَفهوم الدين وربطه بالروحانيات فقط، وبالتالي أدَّى إلى انتشار الخرافات، مِمّا أدَّى إلى صرف الناس عن الدين بالكُلية. إضافةَ إلى أن الدين أصبح مُستغلاً لتحقيق أهداف ومآرب خاصة، ومُستخدماً كوسيلة للضغط على الشعوب، وهذا ما دفع كثير من الدول لاتباع نهج ما يُدعى ب “العلمانية “، وهو فصل الدين عن الدولة.
وقد نجح الإسلام كمنهج، بينما فشلت الرأسمالية والشيوعية، ولكن ابتعاد
المسلمين عن دينهم الصحيح وعجزهم عن نشر مبادئ الإسلام بصورة صحيحة، ساهم في
العقود الأخيرة بازدياد نسبة الملحدين والمشككين والحائرين في العالم، وبَدَأَت
البشرية تكفر بكل العقائد لجهلها بالدين الصحيح وفساد ما يُعرض عليها من مُعتقدات.
إنه ما من مُستشرق درس الإسلام وحضارته –
مهما كان موقفة منه – إلا واعترف بأن الإسلام دين ودولة.
[1] (القصص: 77)
[2] (البقرة: 201)
[3] (صحيح البخاري)
[4] (صحيح البخاري)
[5] نسبه للمطران السرياني يعقوب البرادعي عن المسيحيين ، (الذين ينتمون للكنائس الميافيزية المصرية ( الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
[6] هو المعتقد الديني المسيحي الرافض لمجمع أفسس المعقود سنة 431 م. يعرف داعمو كيرلس الأول النسطورية بأنها العقيدة القائلة بأن يسوع المسيح مكون من جوهرين يعبر عنهما بالطبيعتين وهما: جوهر إلهي وهو الكلمة، وجوهر إنساني أو بشري وهو يسوع.
[7]http:// www.islamweb.net/ar/article/193333/
[9] (صحيح البخاري)
كتاب إساءة الحضارة الرأسمالية والشيوعية إلى الله .. الأستاذ الدكتور غازي عناية