قال لي مسن لاتيني يومًا:
إذا سلمنا بوجود خالق للكون فيجب أن يكون هذا الخالق معقد التركيب والصفات، لأن هذا الكون معقد فخالقه يجب أن يكون أكثر تعقيدًا، فكرة الثالوث أقرب إلى الصواب من فكرة أن الخالق فرد صمد.
قلت له ما سمعته مرة وأعجبني:
يقول الفيلسوف المشكك” أنتوني كيني”:
“الحجة التي يتداولها الملحدون بحتمية تعقيد تركيب خالق للكون وأنه ليس واحد أحد واهية، آلة الحلاقة الالكترونية مع تعقيدها الشديد والتي هي عبارة عن قطع وأجزاء إلا أنها لا تعمل بكفاءة موس الحلاقة الذي يتكون من قطعة واحدة. موس الحلاقة يحلق ويقتل انسان ويقطع ثمرة فاكهة”.
قال السائل:
قال: برهان الثالوث أن الله في الأزل وقبل خلقه للكون، لو كان واحدًا فقط لتعطلت صفاته، فكان يجب أن يكون ثلاثة، ليرحم ويرزق ويتفاعل من خلال الثلاثة الذين في داخله.
قلت له:
أنا مثلاً أحمل صفة “مُتحدثة جيدة”، وعندما أقرر أن أصمت ولا أتحدث الآن، هل تتعطل هذه الصفة عندي؟
قال:
ألا يتعارض مفهوم الله الصمد الذي لا يحتاج إلى غيره مع حاجة الإله في الإسلام لوجود بشر يرحمهم ويغفر لهم؟
قلت له:
الله لديه إرادة وليس حاجة.
قال:
لماذا
لا يتجسد الخالق في أحد مخلوقاته؟
قلت
له:
هل يمكن قبول فكرة تزاوج إنسان من بقرة أو غيرها (من الحيوانات بمختلف أنواعها) ليولد ما نصفه إنسان ونصفه حيوان، ومن ثم تكون الطبيعة الحيوانية هي إحدى طبائع وصور الإنسان (بمعنى أن تكون الطبيعة الحيوانية تجسيدًا للصورة البشرية)؟
بالتأكيد: كلا، فإن ذلك يعد انحطاطًا أخلاقيًا و تقليلاً من قدر البشر الذين أكرمهم الله تبارك وتعالى، فالبشر أشرف قدرًا وأرفع منزلة من الحيوانات، وذلك على الرغم من أنهم جميعًا من مخلوقات الإله سبحانه وتعالى.
فما بالنا إذا كان الأمر متعلقًا بالإله الخالق سبحانه وتعالى المتفرد بالألوهية؟
فهل يمكن التقاء الطبيعة الإلهية مع الطبيعة البشرية (المخلوق وٌلد من امرأة، ضعيف ويصير رضيعًا بحاجة إلى الرعاية، والذي سوف يؤول به الأمر لأن يموت ويدفن بعد ذلك كغيره من المخلوقات الأخرى)، أو غيرها لتكون الطبيعة البشرية أو غيرها تجسيدًا للصورة الإلهية ؟!
بالتأكيد هذا يُعد تقليلاً من قدره سبحانه وتعالى.
قال:
أنتم تؤمنون أن للخالق يد، أليس هذا تجسيمًا؟
قلت له:
الخالق واحد أحد، لا نظير له ولا ندّ له، ولا شبيه له ولا مثيل. فأنا كبشر لي يد، والباب له يد، ولكن الفارق شاسع بينهما، وقياسًا على هذا المثال نقول أن الخالق لا يشبه البشر.
قال تعالى في سورة الشورى:
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى:11).
فقد جاء الإسلام داعيًا إلى تتريه الإله سبحانه وتعالى عن فعل التفاهات والنقائص. الله سبحانه وتعالى هو الإله الذي لا يتجزأ الأحد الواحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له مكافئًا أو مماثلاً أو مشابه.
قال لي هندوسي من حملة شهادة الدكتوراة:
إذا كان الله قادرًا علي كل شيء فما المانع من نزوله في صورة البشر؟
أجبته بمثال كنت قد سمعته مرة وأعجبني:
لو نزل الله في صورة البشر فإنه يتخلي من صفة الألوهية، فهتاك فرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فلو قيل لك بأن الهواء أصبح طائرة في سماء لندن فهل تصدق؟
لا علاقة بين الهواء والطائرة فصفة الهواء تختلف تمامًا عن صفة الطائرة فلا يمكن أن يختار هذا صورة ذاك.
قال:
نحن نعبد التماثيل لكي نحصل على التركيز الذهني أثناء عبادة الخالق، ونتفادى شرود الذهن إلي الأشياء الدنيوية، وإن لم يكن للخالق صورة فلن نحصل على التركيز الكامل.
تعجبت جدًا من كلام هذا الرجل الحاصل على هذه الدرجة العلمية الرفيعة وتذكرت قول الله تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج:46).
قلت له:
فهل يتصور أن تنظر إلي الشجرة وتقول أنظر إليها للحصول علي التركيز إلى والدي المسافر، فلاعلاقة بين الشجرة والوالد؟
فما بالك بالله تعالي فأين هذه التماثيل الضعيفة وأين الله القوي العزيز المالك الملك ذو الجبروت والإكرام ؟
فهذا يركز الأذهان أم يشردها؟ ولوكانت عبادة الأصنام لأجل التركيز فقط و لم يكن في نفوسكم الإكرام الشديد لهذه الأصنام فلماذا تغسلولها وتزينوها وتلبسونها من غالي الثياب وتصرفون آلاف النقود عليها وتأتون لعبادتها من الأماكن البعيدة؟
فربما يفكر الشخص في قضية من القضايا حتي ينسى مايحدث حوله وعيناه مفتوحتان، مع أنه ليس لديه صورة معنوية. والله سبحانه وتعالي لما أودع في الفطرة الإنسانية العبادة والإفتقار إليه فإنه أرشدهم لكيفية العبادة عن طريق إرسال الأنبياء والرسل ولم يتركهم على عقولهم وأهوائهم يتصرفون كيفما يشاؤون. وما حقيقة الإنسان إلا أنه ولد من قطرة ماء مهين، فما الهدف من خلقه، وما علاقته مع الخالق ؟ ومامصيره بعد موته ؟ فهذه الأسئلة لايستطيع الإجابة عليها من عقله وفهمه من غير هداية الله تعالي. والإسلام عالج هذه المشكلة بقوله صلي الله عليه وسلم عن اﻹحسان في العبادة:
الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك (صحيح البخلري).
قال:
التماثيل المنحوته تعود إليها الروح بعد قراءة التراتيل.
فلت له:
هذا وهم ولا علاقة له بالحقيقة.
ولوسلمنا جدلاً بأن الحياة تعود إليها بعد قراءة التراتيل عليها فأصبحت تمشي وتتكلم وتتصرف كيفما شاءت، فهل يقدر الإنسان إيجاد حياة ؟
فلم يدعي عالم من العلماء حتي الآن إعادة الحياة فيما لا حياة فيه، والحقيقة أن النفع والضر بمشيئة الله تعالي والإنسان يتوهم بأن ماحدث له من النفع سببه التعلق بتمثال من التماثيل.
قال:
ألم تشاهدي من خلال شاشات التلفاز والقنوات الفضائية جريان الدموع علي وجوه التماثيل وتناثر الأزهار من أياديها؟
قلت له:
إنني أعجب من رجل في مثل منصيك العلمي وتنطوي عليه هذه اﻷساليب قي الخداع لكسب المال.
يرد الخالق على هؤلاء:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج: 73 )
الإسلام ليس توحيد الربوبية فقط (الإيمان بإله واحد)، بل وتوحيد الإله في العبادة (توحيد الألوهية بمعنى عبادته وحده). إن الإيمان بإله واحد موجود في ديانات كثيرة، وكان موجود في عقيدة كفار قريش (قوم النبي محمد) أيضًا؛ فعندما سُئلوا عن سبب عبادتهم للأصنام قالوا: لتقربنا إلى الله زُلفى، فهم لا يُنكرون وجود الله.
قال الخالق:
…وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ …(الزمر:3).
وكان ذلك كله بسبب الجهل بالمفهوم الحقيقي للخالق، مما أدى إلى تشويش الأذهان وبالتالي اللجوء إلى الإلحاد، والتساؤل عن أسباب وجود الخالق وغيرها من الأسئلة المشككة بوجوده.
فنتخيل أن أشيع بين الناس أن كاتبة هذا المقال قد صعدت إلى القمر، وجابت الفضاء، فمن يعرفها جيدًا لن يصدق هذه المعلومة وسوف يستهزء بها، لأنه يعرف جيدًا أنها تخاف من ركوب الطائرة.
ولله المثل الأعلى، فمن يعرف صفات الله الحقيقية لن يصدق ما يُنسب إليه من صفات بشرية.
الخالق خلق قانون السببية، فلا يخضع له، بمعنى أنه قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته. لذلك فهو لا يتغير، ولا يمر بنفس المراحل الزمنية التي نمر بها من خلال خضوعنا للوقت، ولا يتعب، ولا يحتاج إلى وضع نفسه في شكل مادي. فلا يمكننا رؤيته، لأننا محاصرون في الزمان والمكان. فعلى الشخص الذي يجلس في غرفة بلا نوافذ مثلاً، مغادرة الغرفة لرؤية ما في الخارج.
ومع أن الخالق فعالٌ لما يريد وله طلاقة القدرة، فيجب أن نُسلّم أيضًا بأنه لا يفعل ما لا يليق بجلاله، تعالى عن ذلك علوًا كبيرا.
ولله المثل الأعلى: فعلى الرغم من استطاعة رجل دين ذو منزلة رفيعة الخروج الى الملأ عاري الجسد، فإنه لا يفعل ذلك، لأن هذا التصرف لا يليق بمكانته الدينية.
الوجود كما نراه (الكون والإنسان) لابد أن يوجده الذي يستوعبه بالكامل، فيجب أن لا تكون صفات خالق الوجود بمستوى هذا الوجود أو أقل منه.
الكمال المطلق صفة الموجِد المطلق الذي يحتوي ويستوعب كل الوجود ويخلق قوانينه ويسيِّرها، والطريق لمعرفة الخالق يبدأ من معرفة النفس (فمن عرف نفسه فقد عرف ربه)، وبعد أن نتعرف على عظمة الموجد والمبدع لهذه النفس البشرية ولهذا الوجود الكوني، ندرك تمامًا أن الموجودات ناقصة ومحدودة رغم آفاقها قياسًا بالخالق المبدع، وبالتالي نستنتج أن صفاتنا تختلف عن صفات خالقنا.
فالخالق لا يتجسد في صورة إنسان أو حيوان، ولا صنم أو حجر، وعلى البشر عبادته مباشرة دون قسيس ولا قديس أو أي وسيط.
كتاب دين عالمي
فاتن صبري