من اللحظات الجميلة التي عشتها في حياتي هي لحظة انصاتي لزميل لي في العمل يشرح لمجموعة من غير المسلمين محور سورة الفاتحة.

تعجبت من روعة الشرح وقد علمت مسبقًا أن زميلي هذا كان قد نشأ في أسرة هندوسية واعتنق الإسلام في بداية مرحلة الشباب، و قد تعرض لاضطهاد كبير من أسرته الثرية جدًا بسبب إسلامه.

وقد عانى حياة الفقر والتشرد بعد طرد أهله له من المنزل وسحب ما لديه من ممتلكات.

مشهد معاناة زميلي الذي كان يدور في خلدي أثناء انصاتي له، مع روعة الشرح كان قد جعلني أسبح بأفكاري في عالم آخر.

هذا الزميل فَضَّل المعاناة مقابل إيمان دفين في قلبه أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد.

ولقد دافع بكل ما أُوتى من قوة عن هذا الحق.

الحق الذي أقره الخالق بالإيمان به على أنه الإله الواحد الأحد الذي ليس له شريك في الملك وليس له ولد، ولا يتجسد في صورة إنسان ولا حيوان.

وعلى البشر عبادته مباشرة بدون قديس ولا قسيس ولا حجر أو صنم ولا حتى أن يجعل من النبي المرسل إليه وسيطًا بينه وبين الخالق.

فعلى المؤمن أن يكون له علاقة مباشرة مع خالقه كما فعل الرسول وليس أن يجعل من الرسول وسيطًا بينه وبين الخالق.

سورة الفاتحة:

جميع المسلمين على وجه الأرض والذين يلتزمون بأداء صلواتهم اليومية يقرؤون سورة الفاتحة سبعة عشر مرة يوميًا في الصلوات المفروضة، وأكثر من ذلك بكثير عندما يتلونها في الصلوات غير المفروضة.

وهم يتعبدون بها ويقرؤونها على مرضاهم، ولكن الأغلب لا يدرك ما تحويه من دروس وعبر.

سورة الفاتحة :

  • سورة مكية، أي نزلت في مكة المكرمة
  • آياتها سبع آيات
  • سميت الفاتحة لافتتاح سور القرآن الكريم بها
  • أول القرآن ترتيبًا لا تنزيلاً

لقد نص القرآن الكريم على العقيدة والعبادة ومنهج الحياة، ويدعو إلى الإيمان بالله و عبادته، وهذه هي محاور السورة.

محاور سورة الفاتحة:

  • العقيدة: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين
  • العبادة: إياك نعبد وإياك
  • منهج الحياة: إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضآلين

وكل ما تحويه سور وآيات القرآن هو عبارة عن شرح لهذه المحاور.

فالإسلام ليس فقط توحيد الربوبية (الإيمان بالخالق)، بل وتوحيد رب العالمين في العبادة (توحيد الألوهية)، بمعنى عبادته وحده بدون وسيط.

إن الإيمان بإله واحد (توحيد الربوبية) موجود في ديانات كثيرة، وكان موجود في عقيدة كفار قريش أيضا؛ فعندما سُئلوا عن سبب عبادتهم للأصنام قالوا: لتقربنا إلى الله زُلفى فهم لا يُنكرون وجود الخالق.

كما قال الله في سورة الزمر:

أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)

إن الاختلافات بين الديانات وطوائف الديانات نفسها هي بسبب وجود الوسطاء بينهم وبين الخالق.

وهم يَختلِفون وَيتعارَكون وَقد يُذبح بَعضهم البَعض، عَلى نقُطة أساسية وَهِي: الصُّورة وَالهَيئة التي يَأتي بِها الله إلى الأرض. فالهِندي النَّصراني يَقول مَثلاً: الله واحد، لكنهُ يَتَجسّد في ثلاثة أقانيم (الآب، الابن والروح القدس)، والهِندي الهِندوسي منهم من يقول: يأتي الله بصورة حَيَوان أو إنسان، أو صنم،إلخ.

لكنهم في الشدائد يتوجهوا جميعًا مباشرة إلى الخالق.

فالإيمان بالخالق على أنه لا يتجسد في بشر ولا صنم وعبادته مباشرة هو ما يميز دين الإسلام عن باقي ديانات العالم.

ومما يؤكد على أن دين الإسلام (التوحيد) هو أصل لهذه الديانات جميعها.

ونجد الملحد أو حتى البُوذي الذي يقدس شخص بوذا يلجؤون إلى القوة التي في السماء لنجدتهم عند تعرضهم لخوف شديد. وبذلك يكونون قد اعترفوا ضمنًا بوجود الخالق.

فكان على الجميع وكما لجؤوا إلى الخالق مباشرة في الضراء، أن يتوجهوا إليه مباشرة في السراء والضراء لتتوحد قلوبهم على الحق الذي هو دين الإسلام.

وسورة الفاتحة و على قصرها احتوت على معاني التوحيد الثلاثة.

  • توحيد الربوبية: الحمد رب العالمين
  • توحيد العبادة: إياك نعبد وإياك نستعين
  • توحيد الأسماء والصفات: الرحمن الرحيم

معرفة صفات الله:

إن خلاصة الحياة الدنيا هي:

  • العلم بالله
  • العمل لله

والعلم بأسماء الله وصفاته يفتح للعبد باب معرفة الله، فإن محبة الشيء جزء من الشعور به، وكل من عرف الله أحبَّه، ولا سبيل للحصول على هذه المعرفة إلا من باب العلم بالأسماء والصِّفات.

في أحد الأيام تحاورت مع ملحد أمريكي، حيث قلت له:

إن الخالق الذي خلق عباده هو أرحم بهم من أمهم، وأن المؤمن عندما يضع في اعتباره أن من سيحاسبه یوم القیامة هو ربه الذي خلقه، هو أرحم به من أمه التي ولدته، فتخیل مدى فرحته ومدى اطمئنانه عندما يقابل ربه، وهذا كافي لأن نشعر بالسعادة في هذه الدنیا وسوف تهون علينا كل الصعاب.

إن عدم معرفة رب العالمين يُؤدي إلى وضع أفكار أو تصورات خاطئة عن الإله كأن يتجسد في ثلاثة أقانيم أو يتمثل في جسد بشر. إن تحريف المفهوم الحقيقي للإله في العهد القديم لم يُشوش أذهان الناس فقط ويَضعهم في حِيرة فحسب، بل تسبب بلجوئهم إلى الإلحاد وصرفهم عن الدين بالكلية.

فالتوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على موسى علیه السلام ذكرت أن الله تعالى بصفاته العليا، هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا یموت وهو الخالق الأبدي الرحيم المنزه عن كل عيب أو نقص، وأنه المعبود وحده، لكن نجد في العهد القديم ( التوراة المحّرفة)، أنهم يَنسبون إليه صفات لا تليق به (كأن ینسى، لا یعرف، یخاف، یرتاح) سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا

أسرارإياك نعبد“:

إن طبيعة كروية الأرض ودورانها حول نفسها والتي بدورها تنشأ تعاقب الليل والنهار وانضمام المسلمون بطوافهم حول الكعبة عكس عقارب الساعة.

وبصلواتهم الخمس التي تجعل صلاة المسلمين لا تتوقف على وجه الأرض ثانية واحدة بسبب تزامن مواقيت الصلاة مع شروق الشمس وغروبها عبر اليوم، تالين الآية الكريمة (إياك نعبد)، فعند تلاوة هذه الآية التي تتكلم بصيغة الجمع، يُقر كل مسلم أثناء صلاته ضمنًا بصلاته مجتمعًا مع مسلمين آخرين من مختلف بقاع الأرض وباتجاه مكة، فعندما ينتهي المسلم في مدينة معينة من خمس دقائق مدة الصلاة، يبدأ مسلم آخر في مدينة أخرى، مما يجعلهم يشكلون جزء من منظومة الكون في التواصل الدائم والمستمر في تمجيد وتسبيح رب العالمين.

سورة الفاتحة هي أم الكتاب:

تحتوي على:

  • أصول الدين
  • فروع الدين
  • العقيدة
  • العبادة
  • التشريع
  • الإعتقاد باليوم الآخر
  • الإيمان بصفات الله الحسنى
  • إفراد الخالق بالعبادة
  • الإستعانة بالله والدعاء

وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقة، عن طريق ذكر مصير المؤمنين الموحدين، ومصير غير الموحدين الذين عبدوا مع الله ما ينفع ولا يضر.

والمتمثل في الآية:

غير المغضوب عليهم ولا الضآلين.

وفيها رد على جميع طوائف المسلمين ممن يلجؤون إلى محمد عليه الصلاة والسلام بطلب العون.

والمتمثل في الآية:

إياك نستعين.

أسرار “إياك نستعين” :

يؤكد الإسلام على عصمة الأنبياء من الخطأ فيما يُبلغوا عن الله، ولا عصمة ولا وحي لقسيس أو قديس، ومن المحرم تمامًا في الإسلام اللجوء لغير الله في الاستعانة والطلب حتى لو كان الطلب من الأنبياء أنفسهم، ففاقد الشيء لا يعطيه.

كيف يطلب الإنسان من غيره العون وهو الذي لا يستطيع إعانة نفسه، والطلب من الله عز ومن غيره مذلة.  هل يُعقل أن نساوي بين الملك وعامة شعبه بالطلب، فالعقل والمنطق يدحض هذه الفكرة تمامًا. وإن الطلب من غير الله عبث مع الإيمان بوجود الإله القادر على كل شيء، وهو شرك مناقض للإسلام وهو أعظم الذنوب.

قال الله تعالى على لسان الرسول في سورة الأعراف:188:

قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

وقال أيضًا في سورة الكهف :110:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحدا

وقال في سورة الجن:18:

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا

تذكر سورة الفاتحة بأساسيات الدين ومنها:

  •  شكر نعم الله (الحمد لله)
  • الإخلاص لله (إياك نعبد واياك نستعين)
  •  الصحبة الصالحة (صراط الذين أنعمت عليهم)
  •  ذكر أسماء الله الحسنى وصفاته (الرحمن، الرحيم)
  •  الإستقامة (إهدنا الصراط المستقيم)
  •  ذكر اليوم الآخر (مالك يوم الدين) ويوم الدين هو يوم الحساب

سورة الفاتحة درس في التعامل مع الله:

  •  أولها ثناء على الله تعالى (الحمد لله رب العالمين)
  •  آخرها دعاء إلى الله بطلب الهداية (إهدنا الصراط المستقيم)

قال الله تعالى في الحديث القدسي:

 (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فاذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله عز وجل: حمدني عبدي، واذا قال: الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، واذا قال : مالك يوم الدين، قال عز وجل: مجدني عبدي، وقال مرة فوض الي عبدي، فاذا قال: اياك نعبد واياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)

حقائق:

  • آخر كلمات سورة الفاتحة عبارة عن دعاء مما يربطها ببداية سورة البقرة (هدى للمتقين)، فكأن (اهدنا الصراط المستقيم) في الفاتحة هو الهدى الذي ورد في سورة البقرة
  • أحكام التجويد في سورة الفاتحة جاءت ميسرة مما يجعل تلاوتها وحفظها ميسرًا لجميع الناس عربًا كانوا أو عجمًا

والله تعالى هو الرحمن الرحيم، وهو مالك يوم الدين وعلينا أن نحذر عذابه يوم القيامة ويوم الحساب.

والناس جميعَا بحاجة الى معونة الله تعالى ليتمكنوا من عبادته فلولا معونته سبحانه ما عبده البشر (إياك نعبد وإياك نستعين).

الصراط المستقيم:

الصراط المستقيم هو: عبادة الله وحده والايمان بأنه الواحد الأحد الدَذي ليس له شريك ولا ولد، ولا يأتي في صورة إنسان أو حيوان، خلق المسيح بلا أب وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد.

فمنذ زمن آدم عليه السلام من عبد الله مباشرة كان على الصراط المستقيم.

ومن اتخذ صنمًا أو حجرًا أو قسيسًا أو قديسًا أو أيًا من الوسطاء بينه وبين الخالق، أو اعتقد أن للخالق ولدًا أو شريكًا كان من الضالين.

وكل من رفض الإيمان برسل الخالق ورسالة محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام، أو قتل الأنبياء، وعصى الله (الخالق) ونكث العهد معه، وأعطى الخالق صفات بشرية كان من المغضوب عليهم.

وندعو الله تعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم الذي هو صراط أنبياء الله جميعًا وختامًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.  

 وندعوه أن يبعدنا عن صراط المغضوب عليهم والضآلين.


مرجع:

كتاب لماذا الدين؟ رحلة من الذاكرة

فاتن صبري

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *