اختلطت الأولويات عند البشر:

مما أثار تعجبي واستيائي مؤخرًا أنه في الوقت الذي تعلو فيه المطالبات بالتخلي عن التراث الديني، تنطلق انتقادات لاذعة لمنتقدين بعض المطربين القدامى، وغضب شديد ممن يتكلم عنهم بسوء، وتصريحات من مؤسسات فنية وقومية بعدم السماح بالمساس بالتراث الفني.

وقد سمعنا عن تمجيد البشر لأشخاص كانوا قد دافعوا عن قضيتهم باسم القضية والأرض، وباسم حق التعبير والصحافة والاعلام، ومع الدفاع عن هذه الحقوق تناسوا الدفاع عن حق الخالق.

قلت في نفسي:

حقًا لقد فقد البشر التركيز والتفكير الموضوعي، ومعرفة ما يصلحهم وما لا يصلحهم.

لقد اختلطت الأولويات عند البشر.

إن بانشغال الحضارة الإسلامية بجمع ما صح من أقوال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وانشغالها بحفظ القرآن الكريم قد أحسنت التعامل مع خالقها، لأنها تكون بذلك قد حافظت على دين يضع العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في المكان الصحيح، وذلك باعطاء الخالق حقه بالتواصل معه مباشرة، في الوقت الذي أساءت فيه الحضارات البشرية الأخرى التعامل مع الله، فقد كفرت به، وأشركت معه مَخلوقاته في الإيمان والعبادة، وأنزلته منازل لا تتلاءم مع جلاله وقدره كأن نسبوا له ولد، أو أنه يتجسد في صورة حيوان أو حجر وما إلى ذلك

كم تعجبت خلال تجوالي حول العالم من اهتمام الجميع بالمطالبة بحقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحقوق المرأة،  حتى انتهوا بحقوق المثليين والذين لا يملكون إلا ميول شاذة خارقة لقوانين الكون.  وهل ميولي للسفر والتجوال على سبيل المثال يجعل لي حق على الدولة أن تدعمني ماليًا ومعنويًا لتحقيق رغباتي وميولي حتى وإن كانت طبيعية؟ 

وبغض النظر عن التناقض الملحوظ في تصرفات البشر بهذا الخصوص، فقد تناسوا أهم حق وهو حق الخالق الذي خلقهم وصورهم وأعطاهم حرية الاختيار. ونسوا أيضًا المطالبة بحقهم في التواصل مع الخالق مباشرة.

دائما ما أركز في حواراتي و محاضراتي على نقطة ترتيب الأولويات وإعطاء الحقوق والموازنة بين ذلك كله.

وأقول أن مشكلة العالم اليوم هي بعدم تحديد الأولويات.

فالوصايا العشر في التوراة والموجودة في كتب الهندوسية وبعض الآثار البوذية أيضًا (رغم انكارهم ذلك) تقول: أعطي الخالق حقه بداية ثم لا تقرب السرقة والزنى.

ومن أكبر الأدلة على ذلك هو لجوء الجميع بما فيهم الملحد والهندوسي والبوذية إلى القوة التي في السماء والتي تتمثل في الخالق لنجدتهم عند انقطاع الأسباب الدنيوية وتعرضهم لخطر الموت.

ورغم وجود هذه الوصايا في الديانات الأخرى المنتشرة في العالم، إلا أنه من العجيب، أنني وجدت من خلال حواراتي مع غير المسلمين أنهم يتذكرون جميع الوصايا إلا الوصية الأولى، فعندما أطلب منهم سردها لي، فإنهم غالبًا ما يبدؤون من الثالثة وهي عدم السرقة، ويُعللون ذلك بأنهم دائمًا ما ينسون الوصية الأولى والثانية، والتي تنص على أهمية عبادة الله وحده من غير وسيط.

لابد للإنسان من الايمان، يمكن أن يسميه إلهًا أو يسميه أي شي آخر، وقد يكون الإله شجرة أو نجمًا سينيمائيًا أو نجمًا في السماء، أو بطلاً قوميًا أو امرأة، أو رئيسه في العمل أو نظرية علمية أو حتى هوىً في نفسه، لكن لابد له من الإيمان بشيء يتبعه ويقدسه، يدافع عنه عن حقوقه، ويرجع له في نهج حياته، وقد يموت لأجله وهذا ما نسميه العبادة.

فإننا إن لم نعبد الخالق فسينتهي بما المطاف بعبادة غيره.

فنجد البشر اليوم أبعد ما يكونون عن الالتزام باعطاء الخالق حقه، فعبدوا غيره.

وهذا دليل على تجاهل هذه الوصايا بصورة متعمدة، من قبل رجال الدين والمُؤسسات الدينية، القومية والفنية الخ، لكسب فوائد دنيوية.

حوار الديانات:

في حوار لي مع مجموعة من زوار مؤتمر حوار الديانات من قساوسة ورهبان من جميع أنحاء العالم مؤخرًا في صدد الاهتمام بالتعايش السلمي، قد ذكرت أن التوحيد هو مفتاح لهذا التعايش.

  • إعطاء الخالق حقه بعبادته وحده.
  • إعطاء البشر حقهم بالتواصل المباشر مع خالقهم.
  • اعطاء رسل الخالق حقهم، جميعهم من آدم إلى محمد بما فيهم المسيح وموسى عليهم الصلاة والسلام، وذلك الإيمان بهم واحترامهم واتباع رسالة آخر نبي فيهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
  • رفع الظلم والاضطهاد عن المظلومين.
  • التخلص من العصبية القبلية المقيتة، وارساء مبادئ الأخوة والمساواة بين البشر.
  • إعطاء البشر حقهم في اختار الدين، حيث كانت الشعوب في الحضارات السابقة لبعثة نبي الله محمد محرومة من هذا الحق.

لكن علينا في جميع الأحوال التمسك بحقيقة وجود دين واحد صحيح، وهو عبادة الخالق الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. والذي لا يأتي إلى الأرض في صورة إنسان أو حيوان أو صنم أو حجر.

وتذكرت حينها تلخيص بسيط سمعته وأعجبني كثيرًا عن النموذج الإسلامي لترتيب فقه الأولويات والتفكير الموضوعي (١).

لقد بُعث محمد صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب وقد كانت محاطة بحضارات تميزت بقمعها لشعوبها ودكتاتوريتها.

  • لقد مجدت الحضارة الفارسية “كسرى” الشخص البشر على أساس سياسي.
  • ومجدت حضارة الرومان “الشعب الروماني” على أساس سياسي فجعلت البشر إما روماني وإما بربري.
  • ومجدت الحضارة النصرانية “المسيح” الشخص البشر على اساس ديني وجعلت منه إله.
  • ومجدت حضارة اليهود “الشعب اليهودي” على أساس ديني فجعلت البشر إما يهودي وإما أممي.

فجاءت الحضارة الإسلامية ورفضت تمجيد محمد صلى الله عليه وسلم على أساس سياسي.

قال الخالق:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران:144)

ورفضت الحضارة الإسلامية تمجيد محمد عليه الصلاة والسلام على أساس ديني.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف:110)

وقال صلى الله عليه وسلم:

لا تطرُوني كما أطرتِ النصارَى ابنَ مريمَ إنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ اللهِ ورسوله (حديث صحيح)

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه عند موت رسول الله:

من كان يعبد محمد فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله خي لا يموت (حديث صحيح)

ورفضت الحضارة الإسلامية تمجيد العرب على أساس سياسي.

قال رسول الله:

مَن خرج من الطاعةِ، وفارق الجماعةَ، فمات، مات مِيتةً جاهليةً، ومن قاتل تحت رايةٍ عَمِيَّة، يغضبُ لعَصَبِيةٍ، أو يَدْعُو إلى عَصَبِيَّةٍ، أو ينصرُ عَصَبِيَّةً، فقُتِلَ، فقَتْلُه جاهليةٌ، ومَن خرج على أمتي يَضْرِبُ بَرَّها وفاجرَها، ولا يَتَحاشَا من مؤمنِها، ولا يَفِي لِذِي عُهْدَةٍ عَهْدَه، فليس مِنِّي ، ولستُ منه(حديث صحيح)

ورفضت الحضارة الإسلامية تمجيد العرب على أساس ديني.

قال رسول الله:

يا أيها الناس: إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي  و لا عجمي على عربي، و لا لأحمر على أسود  و لا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، “إن أكرمكم عند الله أتقاكم (حذيث صحيح)

الخالق هو محور الكون:

قال الخالق:

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)

لطالما أحببت أن أردد هذه الآيات التي تعطي وبصورة واضحة للإنسان سبب وجوده في هذه الدنيا.

قال رسول الله:

إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه ثم ألقي في النار ) رواه مسلم

نفهم من كلمات الحديث الشريف أن:

  • الخالق هو محور الكون
  • حق الخالق هو محور الحياة
  • وجود الخالق هو قيمة الحياة
  • فمن غير وجود الخالق لا قيمة للحياة.

إن حتمية نهاية الحياة لهو أكبر مؤشر على عدم وجود قيمة لها من غير وجود للخالق.

ومن عمل من أجل الدنيا والناس فسوف يأخد أجره من الدنيا والناس حبًا وتقديرًا وشهرة وتعظيمًا وتمجيدًا. أما الآخرة فلها قوانينها الخاصة.

في حوار لي مع أسرة لاتينية كان قد أصر أفرادها على تمجيد المسيح والرفع من مقامه لدرجة الألوهية، مبررين ذلك بحبهم له.

حيث قلت لهم:

وهل إذا أحبت الفتاة والدها فإنها تتزوجه؟

الحب أنواع، والحبيب لا يغالي بحب حبيبه، ويعطيه الحق الذي يستحقه.

حب المرأة لوالدها ليس كحبها لأخيها ولا حبها لزوجها أو ولدها.

فكل منهم له حقه.

فحب الخالق يؤدي إلى إعطائه حقه وهو عبادته وحده، وحب المسيح يؤدي إلى إعطائه حقه وهو اتباع رسالته.

  • إن أحب الإنسان بطلاً قوميًا يجب أن يتذكر أن حبه لخالقه يجب أن يكون أكبر. ودفاعه عن حق خالقه يجب أن يكون أقوى وأولى.
  • إن أحب الإنسان من دافع عن حقه، فيجب أن يتذكر أن حبه لمن أعطاه هذا الحق أصلاً يجب أن يكون أقوى وأولى.
  • إن أحب الإنسان من أنقذ حياته فيجب أن يتذكر أن حق من أعطاه هذه الحياة أصلاً يجب أن يكون أقوى وأولى.

التواصل مع الخالق أولوية:

عندما سئل أحد الفقهاء عن أولوية التواصل مع الخالق مباشرة من خلال الصلاة على التحلي بالأخلاق الحميدة قال:

الصلاة أولى لأنها ستقود الإنسان إلى التحلي بالأخلاق الحميدة حتمًا.

وإن لم تنه الصلاة المؤمن عن الفحشاء والمنكر فيكون العيب هنا في ايمان المؤمن وكيفية تأديته للصلاة ودرجة خشوعه، وليس العيب في فكرة الصلاة نفسها، وعليه في هذه الحالة أن يراجع نفسه.

قال تعالى:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( العنكبوت45)



مواضيع ذات صلة:

ar
ar

مرجع:

كتاب دين عالمي

فاتن صبري

يوتيوب (١)

حلقة مميزة للمهندس فاضل سليمان

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *