معية خالق الوجود:

ما أن تم نشر كتابي الجديد “حرب على الحقيقة”حتى وصلني تعليق من أحد الشيوخ الأفاضل يقول فيه:

الكتاب لا يبدأ باسم الله ولا بحمد الله تعالى.

شعرت حينها بمشاعر مختلطة بين تعليقه وقناعتي الكاملة بتجنب ذكر البسملة، وقلت له:

بخصوص البسملة، فأتجنبها أحيانا إذا كان الكتاب موجه إلى الملحدين لكي أجذبهم إلى القراءة بحيادية مبدئياً، وأتدرج معهم من بداية حاجتهم إلى الأمان إلى اثبات وجود خالق للكون وجميع النقاط الأخرى المذكورة بالكتاب، وأختم بالشهادة على افتراض مني باقتناعهم بالحجج المنطقية المذكورة والتي سوف تقودهم إلى نطق الشهادة الموجودة في نهاية الكتاب إن شاء الله. هذا اجتهاد مني والله أعلم بالصواب.

فأجاب بتعليق آخر: كتابة البسملة في بداية كتابة أي شي. كل أمر ذي بال لا يبدأ باسم الله فهو أجذم.‏

فقمت حينها باضافتها على الفور وإرسال نسخة جديدة معدلة ليتم إعادة نشرها.

بقيت أفكر في الموضوع لمدة يومين حتى موعد رحلة طائرتي إلى جدة، ومنها إلى مكة لإلقاء محاضرة هناك عن تجربتي في الدعوة.

جلست في مقعدي المفضل عند النافذة، وجلس بجانبي طفل عربي مسلم وأخيه في حدود العشر سنوات من العمر.

تفاجئت بشيء عجيب في تصرفات الولد وأخيه، فما إن يقف أحدهم فإنه يقول بسم الله، ويجلس فيقول بسم الله.

يفتح حقيبته لإخراج هاتفه المحمول فيقول بسم الله، يغلق الحقيبة ويعدل جلسته ليبدأ في اللعب قائلاً: بسم الله. ثم يغير اللعبة قائلا بسم الله.

أيقنت حينها إنها رسالة من رب العالمين ترد على تساؤلاتي وحيرتي خلال اليومين الماضيين فيما يخص البسملة.

عدت من رحلتي ووقع في يدي فور عودتي كتاب عجيب لعالم جليل يحتوي على كلام في غاية من الروعة عن أهمية البسملة. حيث يقول الكاتب*:

إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابد له أن ينتمي إلى رئـيس قبيلة ليدخل تحت حمايته كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتـدارك حاجاتـه، وإلاّ فسيبقى وحده حائراً مضطرباً أمام كثرة من الأعداء، ولا حد لها من الحاجات. وهكذا.

وقال الكاتب:

فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان أحدهما متواضعاً والآخـر مغروراً، فالمتواضع انتسب إلى رئيس بينما المغرور رفض الانتسـاب. فتجـولا في هـذه الصحراء. فما إن كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم، وإن لقيه قاطع طريق يقول له :” إنني أتجول باسم ذلك الرئيس “فيتخلى عنه الشقي .

أمـا المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستديم، فأذلّ نفسه وأهانها.

ويستطرد الكاتب:

نعم إن هذه الكلمة الطيبة “بسم االله ” كنـز عظيم لا يفنى أبداً، إذ بها يرتبط “فقرك” برحمة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق “عجزك” بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات إلي المجرات. حتى أنه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال.

إن الذي يتحرك ويسكن ويصبح ويمسي باسـم الله كمـن انخـرط في الجندية؛ يتصرف باسم الدولة ولا يخاف أحداً، حيث إنه يتكلم باسم القانون وباسم الدولة، فينجز الأعمال ويثبت أمام كل شيء.

فالموجودات أيضاً تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغر تحمل فـوق رؤوسها باسم الله أشجاراً ضخمة وأثقالاً هائلة. أي أن كل شجرة تقول: بسم الله وتملأ أيديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها إلينا. وكل بستان يقول : بسم الله فيغدو مطبخاً للقدرة الإلهية تنضج فيه أنواع من الأطعمة اللذيذة. وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع ـ كالإبل والمعزى والبقر – يقول: بسم الله فيصبح ينبوعـاً دفاقـاً للّـبن السائغ، فيقدم إلينا باسم الرزاق ألطف مغذّ وأنظفه.

أيقنت أخيرا أن الطفل الصغير والعالم الجليل والشيخ الفاضل علموني درسا جميلا لن أنساه أبدا.

حكمة خالق الوجود:

قالت لي شابة لاتينية يوما:

البشر يكرهون الشر، فإذا كان هناك خالق كما تقولون فلماذا خلق الخالق الشر، فهو خالق كل شي .

قلت لها:

إن لم يكن هناك خالق فمن أين لنا هذا الخير بداية؟

على افتراض أن الخالق خلق الشر، فلماذا اختار الإنسان فعل الشر الذي يكرهه أصلا؟

إن خلق الشر ليس شرا بحد ذاته، لأن الخلق يتعلق بالنتيجة، فلا يوجد شر مطلق. أما من اختار الشر مثل البشر فهو الشر بعينه.

ان الشر لا يأتي من الخالق، إن الشرور ليست أمورًا وجودية، فالوجود هو خير محض.

إذا قام شخص مثلاً وضرب شخصًا آخر حتى أصابه بالشلل، فقد اكتسب صفة الظلم، والظلم شر.

لكن وجود القوة لدى من يأخذ عصا ويضرب بها شخصًا آخر ليس شرًا.

ووجود الإرادة التي أعطاها الله له ليس شرًا.

ووجود قدرته على تحريك يده ليس شرًا؟

ووجود صفة الضرب في العصا ليس شرًا؟

إن كل هذه الأمور الوجودية هي بحد ذاتها خير، ولا تكتسب صفة الشر إلا إذا أدت إلى الضرر بإساءة استخدامها، وهو مرض الشلل كما في المثال السابق، وبناءً على هذا المثال فوجود العقرب والأفعى ليس شرًا بعينه إلا إذا تعرض له الإنسان فلدغه، فالخالق تعالى لا يُنسب إليه الشر في أفعاله التي هي خير محض، بل في الأحداث التي سمح الخالق بوقوعها بقضائه وقدره لحكمة معينة ويترتب عليها من المصالح الشيء الكثير، مع قدرته على منع حدوثها، والتي نتجت عن استخدام البشر لهذا الخير بصورة خاطئة.

إن الابتلاءات مثل المرض، اليُتم، أو التشرد بلا مأوى، أو الجوع، أخرجت للعالم مواهب، أبطال وشخصيات رائعة من حولنا. نحتت هذه الابتلاءات فضائل المثابرة فيهم، والتي بدورها أكسبتهم الوصول إلى صُنع التاريخ.

عندما يقع في الأرض من كوارث يتضرر منها البشر كالأمراض، البراكين، الزلازل والفيضانات، تتجلى أسماء الله وصفاته كالقوي، الشافي والحفيظ مثلاً، في شفائه للمريض وحفظه للناجي، أو تجلي اسمه العدل في عقاب الظالم لغيره والعاصي، ويتجلى اسمه الحكيم في ابتلاء وامتحان غير العاصي، والذي يُجازى عليه بالإحسان إن صبر وبالعذاب إن ضجر، وبذلك يتعَّرف الإنسان على عظمة ربه من خلال هذه الابتلاءات تماما كما يتعرف على جماله من خلال العطايا.

فإن لم يعرف الإنسان إلا صفات الجمال الإلهي فكأنه لم يعرف الله عز وجل.

قلت لها أيضا:

المؤمن دائما مطمئن القلب ساكن النفس يرى بنور بصيرته أن الدنيا دار امتحان و بلاء و أنها ممر لا مقر، و أنها ضيافة مؤقتة شرها زائل و خيرها زائل. و أن الصابر فيها هو الكاسب و الشاكر هو الغالب*.

وجود خالق الوجود:

لو لم يكن الهدف الأسمى من وجود الكون هو وجود مخطط لصنع دماغ بشري يعي فيه وجوده
وإلا فما الفائدة من صنع كون لايعي وجوده أحد.

ما البديل عن وجود الخالق:

من أجمل ما قرأت كانت تساؤلات جميلة لأحد الشباب حيث يقول فيها:

هل الطبيعة مهندسة معمارية أم مهندسة إنشائية أم الإثنين معا؟

هل الطبيعة عبقرية لهذا الحد كي تخترع قوانين للكون في غاية الدقة؟

أم أن الطبيعة رسامة ترسم في غاية الجمال والإبداع زهور وطيور وفراشات ملونة؟!

هل الطبيعة عالمة في الرياضيات لنرى لغة الرياضيات متمثلة في كل شيء حتى في عقولنا وهي اللغة التي شكلت كل أشياء هذا الكون ؟

أم الطبيعة عالمة بالبرمجيات لنرى أشرطة وراثية تصنع كل إبداع الحياة ؟

هل الطبيعة مهندس معماري أم أنها مهندس إنشائي أم أنها الإثنين معا؟

هل الطبيعة وموادها الجامدة البلهاء تمتلك عقلا و تمتلك كل تلك الصفات المذهلة؟!

هل الطبيعة عبقرية إلى هذا الحد ليتغلغل الذكاء في صنع كل ذرة فيها وفي صنع كل شيء وفي صنع كل قوانينها الدقيقة؟!

فنجد هنا أن تساؤلات هذا الشاب منطقية جدا، فالطبيعة الصماء لوحدها هي أعجز من أن تصنع ذرة واحدة أو ذبابة أو أن تنشئ قانون فيزيائي بلغة رياضية أو أن تبرمج شريط الحياة الوراثي ذلك المخطط الذي يرسم بدقة كل تفصيله خاصة بكل كائن حي تصنعه من مواد وعناصر ميته فيصبح كائن حي يتحرك ويسمع ويبصر ويفكر؟!

فلا بد للإنسان من الايمان بشئ، يمكن أن يسمي هذا الشئ إلهًا أو يسميه أي شي آخر، وقد يكون الإله شجرة أو نجمًا سينيمائيًا أو نجمًا في السماء، أو بطلاً قوميًا أو امرأة، أو رئيسه في العمل أو نظرية علمية أو حتى هوىً في نفسه، لكن لابد له من الإيمان بشيء يتبعه ويقدسه و يدافع عنه وعن حقوقه، ويرجع له في نهج حياته، وقد يموت لأجله وهذا ما نسميه العبادة.

وهنا نتعرف على معني اسم الله والذي هو الإله الواحد الأحد، والذي يجب أن يكون مصدر الوجود وخالق الكون، وليس الطبيعة الصماء أو أي من المخلوقات.

حقائق:

  • للكون خالق عظيم، خلقه لحكمة عظيمة.
  • للبشر خالق عظيم ، خلقهم لحكمة عظيمة.
  • الخالق منفصل عن البشر و عن المخلوقات.
  • الخالق مختلف عن البشر و عن المخلوقات
  • الخالق لا يأتي إلى الأرض في صورة إنسان أو حيوان. لقد خلق الخالق المسيح بلا أب وخلق آدم بلا أب ولا أم. فهو يخلق ولا يلد.
  • البشر منفصل بعضهم عن بعض.
  • لكل إنسان روح مستقلة.
  • الكون منفصل عن الخالق وعن البشر.
  • لهذا الكون ولهذه الحياة نهاية حيث يحاسب بها الخالق البشر على عملهم
  • أرسل الخالق رسالة واحدة لجميع الأمم مع رسل مختلفة.

الرسالة هي أن الخالق هو مالك لما يصنع، وهو الأحق في سن قوانين الحياة وعلى البشر اتباعها، وهي:

  • الوحدانية: الإيمان بِأنْ لا إِلهَ إِلاّ الخالق وَحدهُ لا شَريكَ لَهُ وَلا وَلدْ، وَأنَّه هُو الخالِقُ وَالرّازِقُ لِلكَوْن كُلُّه ُوَما يَحْتويه.
  •   العُبودِية: عِبادة الخالق وَحدَه، وَعَدم الاشْراك في عِبادته أحداً أو شيئاً آخر.
  • الإيمان بِالرسل: اتباع الرُّسل وَالإيمان بِما جاؤوا بِهِ (في تِلكَ الفَترة). (البِّشارة بِقُدوم الَّنبِيِّ مُحمَّد، وَالحَثّ عَلى إتِّباعِهِ وَالإيمان بِهِ لِمَن سَمِعَ عنه
  •  الأخلاق: فِعلِ الخَيرات وَاجتناب السيَّئات

وأختم بهذه الكلمات الجميلة*:

اِعلمْ يقينًا أن أسمى غاية للخلق وأعظم نتيجة للفطرة الإنسانية هو الإيمان بالله (الخالق). وأن أعلى مرتبة للإنسانية وأفضل مقام للبشرية هو معرفة الله (الخالق) التي في ذلك الإيمان. أن أزهى سعادة للإنس والجن، وأحلى نعمة هي محبة الله (الخالق) النابعة من تلك المعرفة. أن أصفى سرور لروح الإنسان وأنقى بهجة لقائه هو اللذة الروحية المترشحة من تلك المحبة. إذا عرفنا الله (الخالق) تعالى بمثل هذا التعمّق المعرفي حقّ معرفته فأحسب أننا سنُحسن تخطيط حياتنا، وسنسعى للسير في هذا السبيل.


كتاب رسائل النور .. سعيد النورسي*.

سعيد النورسي عالم مسلم كردي.

من أقوال الدكتور مصطفى محمود*

كتاب حرب على الحقيقة : فاتن صبري

العالم المسلم سعيد النورسي*

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *