أذكر مدى سعادتي عند لقاء جارتنا العزيزة التي عاشت أسرتها مع أسرتنا جنبًا إلى جنب مدة طويلة من الزمن شملت فترة طفولتي ومراهقتي كاملة.
في لقائي معها بصحبة أخواتي كانت قد روت لي تفاصيل عن طفولتي وعن ومواقف لم أكن أعرفها بتاتًا.
و قد دعمت هذه المعلومات بصور قديمة كانت قد احتفظت بها طوال هذه الفترة.
تذكرت حينها صحابة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين رافقوه رحلته النبيلة في إيصال رسالة الإسلام وتكبدوا العناء.
رسالة الإسلام تتضمن:
الحق الذي أقره الخالق بالإيمان به على أنه الإله الواحد الأحد الذي ليس له شريك في الملك وليس له ولد، ولا يتجسد في صورة إنسان ولا حيوان.
وعلى الإنسان التواصل مع هذا الخالق مباشرة وليس عن طريق قسيس ولا قديس.
وَدينُ الخالق (الله) يَجبْ أَن يَكونَ واحدْ، سَهْل، مَفهوم وبَسيط، مُوافِق للفِطرة البَشرِية، وَصالح لِكُلّ زَمانٍ وَمَكان. وَهو.
الوحدانية: الإيمان بِأنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وَحدهُ لا شَريكَ لَهُ وَلا وَلدْ، وَأنَّه هُو الخالِقُ وَالرّازِقُ لِلكَوْن كُلُّه ُوَما يَحْتويه.
العُبودِية: عِبادة الله وَحدَه، وَعَدم الاشْراك في عِبادته أحداً أو شيئاً آخر.
الإيمان بِالرسل: اتباع الرُّسل(إبراهيم،موسي،المسيح، وغيرهم) وَالإيمان بِما جاؤوا بِهِ (في تِلكَ الفَترة). (البِّشارة بِقُدوم الَّنبِيِّ مُحمَّد، وَالحَثّ عَلى إتِّباعِهِ وَالإيمان بِهِ لِمَن سَمِعَ عَنْه).[3]
الأخلاق: فِعلِ الخَيرات وَاجتناب السيئات.
والذي يستحق المكافأة من سلك هذا الطريق، والعقاب لمن حاد عنه، ويتمثل ذلك في الدار الآخرة في نعيم الجنة وعذاب النار.
“قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”. (الأنعام: 161)
وقد وثق بعض صحابة نبي الله محمد بعض أحداث عصر النبوة في صحائف وكتب منها ما هو موجود حتى الآن كصحيفة همام بن منبه.
وأطلق عليها اسم (الصحيفة الصحيحة)، على مثال (الصحيفة الصادقة) لعبد الله بن عمرو بن العاص – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وحق له أن يسميها بالصحيحة، لأنه كتبها عن صحابي خالط رسول الله – صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع سنين، وروى عنه الكثير.
وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة، كما رواها وَدَوَّنَهَا همام عن أبي هريرة، فقد عَثَرَ على هذه الصحيفة الدكتور المحقق محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين.
وتزداد ثقتنا بصحيفة هَمَّامٍ حينما نعلم أن الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في ” مسنده “، كما نقل الإمام البخاري عَدَدًا كَثِيرًا من أحاديثها في ” صحيحه ” في أبواب شتى.
ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف، لأنها حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، ودليل ساطع على أن الحديث النبوي كان قَدْ دُوِّنَ في عصر مبكر.
قلت في نفسي:
إن كل منا يتذكر تفاصيل في حياته شهدها مع الأهل والأقارب، أو مع أصحابه أو زملاء الدراسة أو معلمين قد ثبتت في ذاكرته بشكل راسخ، وهي أقوى مما قرأه في كتاب. فما بالنا بأحداث تخص دينٌ يتعبد به الإنسان لربه، ويحتسب في العمل به الأجر عند الله تعالى.
قال لي مسلم يومًا:
إن كان أصحاب رسول الله يرون للسنة أهميةً في الدين، لعجلوا بجمعها وكتابتها كما صنعوا بالقرآن، ولكن الصحابة أهملوها طيلة حياتهم، وماتوا ولم تدون السنة في عهدهم، وإنما تولى تدوينها التابعون بعد مئتي سنة من بدء التقويم الهجري بل إن تدوينها تم في القرن الثالث الهجري، عصر البخاري ومسلم وابن حنبل وغيرهم.
قلت له:
لقد بدأت كتابة بعض من السنة النبوية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعلمه وبإذنه وبأمره.
منها ما كتبه وأرسله صلى الله عليه وسلم لرؤساء وزعماء الشعوب والعشائر، ومنها الاتفاقات والمعاهدات والمصالحات بينه وبين بعضهم، ومنها ما كتبه إلى عماله وولاته في البلدان الأخري، يبين لهم فيه ما يَفصلون به في الخصومات، وأحكام الزكاة والدية والمواريث وأنواع الصدقات ومقاديرها، هذا مما كتب بأمره صلى الله عليه وسلم.
ومنها ما كان يكتبه بعض الصحابة الذين يعرفون الكتابة في ذلك الوقت، كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، وصحيفة علي بن أبي طالب، وما كتب بأمره صلى الله عليه وسلم لأبي شاة، الرجل اليماني الذي طلب منه النبي أن يكتب له، فأمر: اكتبوا لأبي شاة.
إذًا، كانت الكتابة موجودة في عهد النبي، إلا أنها كانت قليلة بالنسبة إلى ما ورد عنه، لأن الأغلب في ذلك الوقت كان لا يعرف الكتابة، فاعتمدوا على قدراتهم الكبيرة على الحفظ في ضبط السنة النبوية،
ولنا أن تتخيل قدرتهم الهائلة على الحفظ إذا علمنا أنهم كانوا يحفظون القصيدة ذات الأبيات الكثيرة من سماعها لمرة واحدة، وإلا فكيف وصلت إلينا آلاف القصائد التي قيلت في الجاهلية ولم يكن ثمة تدوين! أليست المعلقات مما قيل شعرًا في الجاهلية، ورويت لنا ووصلتنا في هذا العصر، فهل دُوّنت المعلقات ولم تدون سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أن سنة النبي لا تقتصر على أقواله فقط، بل إن أفعاله شاهدها الصحابة بأنفسهم، وحضروها وشهدوها منه في السفر والحضر، في العبادات والعادات والقضاء وغير ذلك، شهدوها وحفظوها ورووها لمن بعدهم من التابعين رواية شاهد عيان، ولا ريب أن ما شهده الإنسان ونقله إلى غيره أقوى وأكثر ثقة ممن لم يشهد الحادثة وقام بكتابة ما سمعه من غيره.
ثم بعد الصحابة جاء عصر التابعين، الذي شهد التدوين الرسمي العام للسنة النبوية مع بداية القرن الثاني للهجرة، بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، المتوفى سنة (101هـ).
فقد أمر بتدوين السنة النبوية، وكلف الإمام الزهري بهذا العمل، والإمام الزهري إمام متفَق على أمانته وإتقانه وحفظه وضبطه، وهو من تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم، سمع ممن تأخرت وفاته منهم كأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وسمع من أبنائهم كعروة بن الزبير، وعلي بن عبدالله بن عباس، وسمع من كبار التابعين كسعيد بن المسيّب، وإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، وغيرهم الكثير.
وهنا أريد أن أنوه للفرق بين الكتابة والتدوين.
فالكتابة هي ما فعله بعض الصحابة في كتابة بعض أحاديث الرسول في صحائف، واحتفظ كل منهم بصحيفته.
أما التدوين فهو جمع هذه الصحف في كتاب واحد وهو ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز، وخشي من القيام بهذه الخطوة الخليفة عمر بن الخطاب.
حيث نهى عمر رضي الله عنه عن الاستكثار من كتابة السنة النبوية حتى لا تطغى كثرتها على كتاب الله، فينصرف الناس عنه، فيضيع، لا سيما وأن أحداث جمع المصحف بعد موت الحفظة في اليمامة حاضرة في الذاكرة، ولو فتح مشروع تدوين السنة على مصراعيه لكان أدعى لضياع القرآن.
قال السائل:
لقد ورد أن رسول الله نهى الصحابة عن كتابة الحديث.
«لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» (رواه الإمام أحمد في مسنده).
قلت له: كان ذلك في بداية الدعوة.
فإن ذلك الحديث كان في بداية تدوين القرآن فأراد النبي ألا ينشغل الصحابة بشيء غير القرآن الكريم. ومن هنا نهى في بدء الإسلام عن كتابة أي شيء غير القرآن الكريم، وكان ذلك لعدة أسباب منها:
- عدم اختلاط كلام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن.
- عدم ركون المسلمين إلى الكتابة وترك الحفظ.
و لما زالت تلك الأسباب أذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في كتابة الحديث لمن أراد من المسلمين.
وبعض الأدلة على إذن النبي عليه الصلاة والسلام بتدوين الحديث في زمنه:
- لما فتح الله تعالى مكة للمسلمين خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل من أهل اليمن اسمه أبو شاه، وقال: يا رسول الله، اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لأبي شاه» (رواه الإمام أحمد في مسنده).
- وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهم، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ؛ وأشار بيده إلى فيه» (رواه أحمد في مسنده).
- وعن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: كان رجل يشهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه فشكا قلة حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: «استعن بيمينك، وأشار بيده إلى الخط» (أخرجه الترمذي في سننه).
و تناقلت الأمة الإسلامية هذه الأحاديث خلَفًا عن سلف، وكتبوها في مصنفاتهم، وحفظوها في صدورهم، وعملوا بما فيها في دينهم ودنياهم، حتى إذا حاول المغرضون والمدلسون أن يدسوا في سنة النبي ما ليس منها، اصطدم بعلم الجرح والتعديل، ذلك العلم العبقري الذي ابتكره علماء المسلمين لنقد المرويات عن الرسول، وبيان ما يصح منها وما لم يصح، طبقًا لقواعد تمثل أرقى ما وصل إليه العقل البشري من مناهج نقد المرويات والتوثق من ثبوتها.
القس المستشرق الإنجليزي (دافيد صموئيل مرجليوث) رغم عدائه الشهير للإسلام إلا أنه لم يتمالك نفسه أمام توثيق المسلمين للرواية إلا أن يقول: ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم.
وهذا الأمر يعد حقيقة علمية توصل إليها كثير من الباحثين، فيقول الأستاذ سيد صقر في أول سطور تحقيقه لكتاب فتح الباري: من الحقائق المطوية في الكتب أن الأحاديث النبوية، قد دونت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياة صحابته، فكان لبعض الصحابة كتب تشتمل على ما سمعوا من أحاديث كتبوها بأيديهم، وكتبها عنهم من سمعها منهم، وقد شارك الرسول في تدوين سنته بإملائه على كُتَّابه ما أملى من كتب في الفرائض وغيرها، أو أرسلها إلى من رأى أن من المناسب إرسالها إليه، لتكون تبصرة وتذكرة، فيما افترض من ألوان الفرائض، أو أدبهم به من سنن الأدب.
ويقول الدكتور صبحي الصالح، ليس علينا إذًا أن ننتظر عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز حتى نسمع للمرة الأولى – كما هو الشائع – بشيء اسمه تدوين الحديث، أو محاولة لتدوينه. وليس علينا أن ننتظر العصر الحاضر لنعترف بتدوين الحديث في عصر مبكر، جريا وراء بعض المستشرقين كجولدزيهر وشبرنجر. لأن كتبنا ووثائقنا وأخبارنا التاريخية لا تدع مجالاً للشك في تحقيق تقييد الحديث في عصر النبي نفسه، وليس على رأس المائة الثانية للهجرة.
قال السائل:
وما الذي فعله الإمام البخاري إذًا:
قلت له:
لقد جمع الإمام البخاري كتابًا مختصرًا لصحيح السنة.
ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: «كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح».
يحوي الكتاب 7275 حديثًا، اختارها البخاري من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، وكان قد وضع شروطًا خاصة في قبول رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يكون قد سمع الحديث منه، إلى جانب: الثقة، والعدالة، والضبط، والإتقان، والعلم، والورع.
- السنة النبوية قد بدأ بعض الصحابة بكتابتها في صحائف خاصة بهم بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره.
- أول من أمر بجمع هذه الصحائف الفردية وتدوينها في كتاب كان الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز.
- كل ما فعله الإمام البخاري هو تنقية الأحاديث الصحيحة والموثوقة في كتابه الصحيح الجامع.
- هناك أحاديث نقلها البخاري عن النبي تعرف ب ” ثلاثيات البخاري”، والفرق الزمني بين البخاري وبين زمن نبي الله محمد ٣ أشخاص فقط (۳ أجيال)، وبينه وبين الصحابة شخصان، فما بالنا بمن هم قبل البخاري.
- عدد سلسلة الأشخاص التي تلقى عنهم مقرئ قرآن في وقتنا هذا إلى أن وصل إلى النبي هو ٢٩ شخص فقط، مما يؤكد أن الفرق بين البخاري والنبي ٣ أشخاص فقط، بمتوسط عمر ٥٠ سنة للشخص الواخد.
- علم الحديث شهد له الكثير من غير المسلمين من مستشرقين وغيرهم.
- صحيح البخاري نال القبول والإستحسان من علماء الأمة الإسلامية.
وكتاب الصحيح الجامع للبخاري وبغض النظر عن أهميته الدينية للمسلم، وبغض النظر عن بعض الأحاديث المنتقدة فيه، وغيرها المثار حولها الشبهات، فهو يعتبر كسند ووثيقة تاريخية أصح كتاب بعد القرآن على وجه الأرض.
مراجع:
المقالات العلمية (ص 234- 253): نقلا ًعن تقديم العلامة اليماني المعلمي في المعرفة لكتاب الجرح والتعديل.
أدلة تدوين السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
كتاب السنة قبل التدوين
محمد عجاج الخطيب.