وهُو معكم أينما كُنتم:

في حِوار لي مَعَ سائقي الشخصي في نيجيريا، وقد كان كاثوليكياً مُتديناً، قال: إنني أُؤمن أن المسيح هو ابن الله، لكنّني على قناعة أنه يجب عليّ أن أدعو وألجأ إلى الله وَحده، فأنا لا أطلب من المسيح أبداً، قال لي مُعقباً: كُنت أدعو الله يوماً وأبكي وأقول: يا رب أنا لا ألجأ إلا إليك، ولا أدعو غيرك، أنت تعرف أنني أنوي الزواج، والزواج مسؤولية، زوجتي في المُستقبل سوف تحمل بابني، ويكون عليّ يوما أن أذهب بها إلى المُستشفى لتضع جنينها، وسوف احتاج عندها سيارة لأُقلّها بِها، وقُلت: يا رب أريد سيارة خاصة بي، وبَكيت بشدة. واستطرد قائلاً: وبعد مُرور عِدّة أسابيع، فوجئت بِثرّي من أثرياء مَنطقتنا، وقد كُنت أقوم له ببعض الأعمال مُقابل مبلغ من المال، يقول لي: أنا قد اشتريت لزوجتي هذه السيارة الصغيرة كهدية، ولم تقبلها مني لأنها صغيرة، وأنا مُغتاظ جداً منها، وفاجأني بقوله: أنا سوف أُعطيكَ هذه السيارة.

قال لي السائق: أنتِ لن تتخيلي فرحتي حينها، وكانت فرحتي باستجابة الله لي، أكبر من فرحتي بحُصولي على السيارة.

أمّا أنا فتذكرت قول الله تعالى: ” وهو مَعكم أينما كُنتم”، وقُلت في نفسي، ما أعظمك يا الله، إذا كان هذا حالك مع من يُشرك بك ويقول لكَ ولد، فما بال حالك بمن قال عنك: لم يَلد ولم يُولد ولم يَكن له كُفُوا أحد. وفرحت كثيرا.

وفَرحوا بما عِندهم مِن العِلم:

أذكر أنني كُنت دائماً أشعر بالملل خلال تنقلي مع زوجي في بُلدان صعبة، ومُحاولات زوجي الجاهدة لأن يُساعدني للتأقلم والعيش فيها، أذكر أنه قد قام مرةً بدعوة زميل له من دولة أرمينيا مع زوجته على العشاء في مطعم جميل وهادئ، ليُعطيني الفرصة لأتعرف على الزوجة، لعلّ صداقتها تُهَوِّن عَليّ غُربتي.

لقد لفتت نظري هذه الزوجة بحِشمتها وبَراءة وجهها، لدرجة أنني شعرت أنها طاقة من الإيمان والبراءة.

وفرِحت بها، وخُصوصا أنها قالت لي أنها مُدرسة لغة إسبانية، وتُريد أن تتعلم العربية، اتفقنا على أن أُعلمها العربية مُقابل أن تتحدث معي بالإسبانية كل يوم لمدة ساعة حتى لا أنسى هذه اللُّغة، وأبدأ أنا بتعليمها العربية لساعة أُخرى يومياً.

بدأت لقاءاتُنا وكُنّا نَسكن في نفس المُجمع السَكني، ونلتقي في مَطعم صغير داخل المُجمّع. وكانت الأُمور تجري على أحسنِ حال، حتى حَصلت المُفاجأة، عندما سألتني عن معنى كلمة “الحمد لله” الذي يُردّدها المُسلمون، قُلت لها: المُسلم يَحمد خالقه في السَرّاء والضَرَاء، وهو يَعلم أنّ ما يُصيبُه مِن الخير يأتي مِن ربّ العالَمين، وما يُصيبُه من سوءٍ فمن نفسه، وعليه أن يتوب إلى الله ويستغفره.

فاجأتني بما لم أتوقعه وقالت: الله غير مَوجود، أنتم تَضحكون على أنفُسِكم، الحياة ستفنى ونَصير إلى العدم.

أما أنا فشعرت بذُهول شديد، ليس لأنني لم أُقابل مُلحدين في حياتي، فأنا دائما ما أتحاور مع مُلحدين، لكنّني لم أتوقع هذا الوجه الذي يَحمل كل هذه البراءة والحِشمة في اللّباس، يُخفيانِ قلباً أسوداً لا يَعرف الله.

قالت: أنا معي درجات عُليا في الفيزياء، وأبي عالِم فيزياء، وأبي حذّرني مِن الخوض في هذه التُراهات، وكأني أسمع صوتهُ الآن يقول لي: احذري أن يَخدعوكِ.

قُلتُ لها: وعندما تتعرضين لمَواقف صَعبة ولا يستطيع أباكِ نفسه مُساعدتك ولا غيره، فلمن تلجئين؟

قالت: أنا لا أحتاج أحداً، أنا أعتمد على نفسي ولا أحتاج الإله المزعوم أن يُساعِدَني.

قلتُ لها عجيب أمركِ، كيف يُمكن أن يكون ما تقولينه صحيحاً، وأنتِ فقط عند إصابتك بأنفلونزا حادة قد لا تستطيعين أن تصلي لكوب الماء لتشربي. ماذا قالت لكِ الفيزياء؟ الفيزياء أخبرتك أن هُناك موجات صوتية عليكِ أن تُؤمني بها دون أن تَريْها، وأخبرتكِ عن مَوجات فوق بنفسجية عليكِ أن تُؤمني بها دون أن تَريها، وأن الضَّوء خارج الزَّمان، وأن الجُزيئات المُتّصلة عندما تنفصل عن بعضها تظل تتواصل مع بعضها في نفس الوقت. وأقنعتكِ بوُجود عوالمْ أخرى، وصدقتِ ذلك دون أن تَريْ شيئاً. وأخبركِ العِلم المادي بأن تُؤمني وتُصدِّقي بأشياء غير مَوجودة أصلا كالسَّراب، وتُؤمنين بهذا وتُسلّمين به، وعِند مَوتك لن تَنفَعك الفيزياء ولا الكيمياء، حيث أنهم وَعدوك بالعدم.

أنتِ آمنتِ أن الضَّوء خارج الزمن، ولم تَقبلي أن الخالق لا يَخضع لقانون الزمان والمَكان. بمعنى أن الله تعالى قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وأن الله تعالى لا يُحيط به شيءٌ من مَخلوقاته.

أنتِ آمنتِ أن الجُزيئات المُتصلة عندما تنفصل عن بعضها تظل تتواصل مع بعضها في نفس الوقت، ولم تقبلي فِكرة أن الخالق بعلمه مع عبيده أينما ذهبوا.

أنتِ آمنتِ بأن لديك عقل دون أن تَرينه، ورفضتِ الإيمان بالله دون أن تَرَيْنَهُ أيضاً.

أنت رفضتِ الإيمان بالجَنّة والنّار، وقبلتِ بوُجود عوالِم أُخرى لم تَرَيْها.

قلتُ لها مُعقبةً: مِن المؤمنين أيضاً من لديهِ درجات عُليا بالفيزياء والكيمياء، لكنه يُدرِك أن هذه القوانين الكونية وراءها خالق عظيم، فالعِلم المادي الذي يُؤمن به أباكِ قد اكتشف القوانين التي خلقها الله، لكن العِلم لم يَخلق هذه القوانين. فالعُلماء لن يجدوا شيئا يَدرسونه بدون هذه القوانين التي أوجدها الله. في حين أن الإيمان ينفع المُؤمن في الدُنيا والآخرة. في زيارتك القادمة لأبيكِ، أخبريه بما قُلته لكِ، واساليه عمّن يتبنى التُراهات فعلاً.

قالت: هذه ليست تُراهات، العِلم يَقول: أننا جِئنا نتيجة لأحداث عمياء وعشوائية وغير عقلانية، ووفقًا للعِلم، يتجه هذا الكون نحو الزوال الحتمي وسيُعاني من “الموت الحراري”.

وسيتم تدمير حياة الإنسان قبل هذا الموت الحراري، حيث ستقوم الشّمس في نهاية المطاف بتطهير الأرض.  طبعا النهاية للموت والعدم.

قُلت لها: بناءً على ذلك إذا افترضنا أن هذه الحياة عِبارة عن سَفينة غارقة برُكابها لا مَحالة حسب قولك، فما الهدف من توفير وسائل الراحة على سطح هذه السفينة.

أين الطريق؟

وكُنتُ قد استطردتُ حواري مع هذه السيدة الأرمينية قائلةَ لها: أنتم تَزعمون أن كُل شيء لا معنى له جوهريًا، وبالتالي لدينا الحُرية في إيجاد مَعنى لأنُفسنا من أجل الحُصول على حياة مُرضِية. إنكار الهدف من وُجودنا، هو في الواقع خِداع للذات. وكأننا نقول لأنفسنا “دعونا نفترض أو نتظاهر بأن لدينا هدفاً في هذه الحياة”. وكأنّ حالنا كحال الأطفال الذين يتظاهرون باللَّعب بأنهم أطباء وممرضين، أو أمهات وآباء.

 إننا لن نحقق السعادة إلا إذا عرفنا هدفنا في الحياة.

قالت: أنا سعيدة هكذا.

قُلت لها: ما هي السعادة الحقيقية والهادفة؟  تخيلي أنكِ وُضعتِ ضد إرادتك في قطار فخم. وتجدين نفسكِ في الدرجة الأولى، تَجربة فاخرة ومُريحة، قِمّة في الرّفاهية.

هل ستكونين سعيدة في هذه الرحلة دون الحصول على أجوبة لأسئلة تدور في ذهنكِ مِثل: كيف رَكبتِ القطار؟ ما هو الغرض من الرِّحلة؟ الى أين تتّجه؟ إذا بقيت هذه الأسئلة دون إجابة، كيف يُمكنك أن تكونين سعيدة؟ حتى إذا بدأتِ في الاستمتاع بكل الكماليات التي تحت تصرفك، فلن تُحقّقي أبدًا سعادة حقيقية وذات مَغزى. هل الوجبة الشهية في هذه الرحلة كافية لأن تُنسيك ِهذه الأسئلة؟

إنّ هذا النّوع مِن السّعادة سَيكون مُؤقتًا ومُزيفًا، لا يَتحقّق إلا بِتجاهل مُتعمَّد لإيجاد أجوبة لهذه الأسئلة المُهّمة. إنها كحالة من حالات النشوى الزائفة الناتجة عن السُكر التي تُودي بصاحبها إلى الهلاك.

حينها تفاجَأتُ بِتغيّر في نَبرة صَوتها، وقالت: حسناَ، إذا كان الله حقا ًمَوجود، فهذا بالنسبة لي سيّان، فأنا على أية حال زوجة صالحة، ولا أُؤذي أحداً، وأعامل الجميع باحترام. فلماذا سوف يُعاقبني؟

تذكرتُ حينها قول الله تعالى:

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىٰ ۖ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ”. (النحل:62)

وقوله:

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا” (الكهف: 36)

قُلت لها: ما فائدة عِلاقتك بكلّ مَن حَولَكِ، إذا كانت عِلاقتك بخالِقِكِ مَقطوعة، هل تَقبلينِ عِلاقتُك مع والدِك الذي تتخذينه مِثالاً، أن تكون أسوأ عِلاقة في حياتك؟ وهل سيَقبَل والدُك بهذا ويُكافكِ عليه؟

سماءٌ ذاتُ أبراج وأرضٌ ذاتُ فِجاج ألا تَدلُ على العَليم الخَبير:

تقي الدين بن تيمية يقول: “كيف يُطلَب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كَثيرا ما يتمثل بهذا البيت: “وليس يصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ … إذا احتاج النهارُ إلى دليل”.

يَسرد لنا القُران دلائل وُجود الله:

دليل الخلق والإيجاد:

ويَعني أن نشأة الكون من العدم، تَدل على وُجود الاله الخالق.

“إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ “.) آل عمران:190)

دليل الوُجوب:

إذا قلنا إن كل شيء له مصدر، وأن هذا المصدر له مصدر وإذا استمر هذا التسلسل على الدوام فإنه من المنطق أن نصل إلى بداية أو نهاية. لا بد من أن نصل إلى مصدر ليس له مصدر وهذا ما نسميه “السبب الأساسي” وهو يَختلف عن الحدث الأساسي، فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا أن الانفجار العَظيم هو الحدث الأساسي، ولكن الخالق هُو المُسبب الأساسي الذي سَبّبَ هذا الحدث.

سألني مُلحد يوماً سؤالاً، ظناً مِنه أنني لن أجد له إجابة، قال: إذا كان الله هُو الخالق، فمن الذي خلق الله؟

قُلت له: أجبني على سُؤال بسيط أولاَ، وسوف تَعرِف الإجابة.

قال: حسناَ.

قلتُ له: ما هي رائحة اللون الأحمر؟

قال: لا يُوجد إجابة على هذا السؤال لأن اللون الأحمر لا يُصنّف ضِمن الأشياء التي يُمكن شمّها.

قُلت له: شُكراَ لك، وبذلك، كُل سبب له مُسبّب، لكن الإله بِبساطة لم يُسبَّب، ولا يُصنَّف ضِمن الأشياء التي يُمكن خَلقها. الإله هو الأول قبل كل شيء، فهو المُسبًب الأساسي.

إن الشركة المُصنِّعة لسِلعة أو بِضاعة كالتلفزيون أو الثلاجة مثلاً، تضع قوانين وضوابط لاستخدام الجِهاز، وتقوم بكتابة هذه التعليمات في كتاب يشرح طريقة استخدام الجِّهاز وتُرفِقُه مع الجهاز. وعلى المُستهلك اتباع هذه التعليمات والتقيّد بها إذا ما أراد أن يَستفيد من الجهاز على النحو المطلوب، في حين أن الشركة المُصنِّعة لا تَخضع لهذه القوانين.

فالله هو الذي خلق قانون السببية، ولا يُمكن اعتباره خاضعاً للقانون الذي خَلقَه، لقد خلق الوقت. لذا فهو لا يخضع للوقت. فهو لا يمر في نفس المراحل الزمنية التي نمر نحن بها، ولا يَتعب، ولا يحتاج إلى وضع نفسه في شكل مادي أو أن ينزل إلى الأرض. لذلك لا يُمكننا أن نراه في هذه الحياة، لأننا مُحاصرون في الزمان والمكان، فعلى سبيل المثال: يُمكن للشخص الذي يَجلس في غُرفة بلا نوافذ أن يرى داخل الغرفة فقط. ولرؤية ما في الخارج، يَجب عليه مُغادرة الغُرفة. ومع أن قانون السببية مِن سُنن الله الكونية، إلا إن الله سبحانه وتعالى فعالٌ لما يُريد، وله طلاقة القدرة.

فسألني: لماذا لا يُمكن أن يأتي الله إلى الأرض بأيّ صورة ٍكانت؟

قلُتُ له: على سبيل المثال، ولله المثل الأعلى، ولتقريب الفكرة فقط، فعندما يَستخدم الإنسان الجِهاز الإلكتروني، ويَتَحَكّم فيه من الخارج، فإنه لا يَدخل بأي حال من الأحوال داخل الجِهاز. فَضَحِك وقال: فعلاً كلام سليم.

دليل الاتقان والنظام:

ويَعني أن دِقّة بِناء الكون وَقوانينه تَدُل على وُجود الاله الخالق.

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ”. (المُلك: 3)

“إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”. (القمر: 49)

دليل العِناية:

وهو أن الكون قد تَمّ بِناؤه ليَكون مُلائما تماما لنشأة الانسان، وَيعود هذا الدّليل إلى صِفات الجّمال وَالرّحمة الإلهية.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ”. (إبراهيم:32)

دليل التَسخير والتَدبير:

وَيَختص بصفات الجلال والقدرة الإلهية.

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)”. (النحل: 5 – 8)

دليل التَخصيص:

 ويَعني أن ما نَراهُ في الكَون، كان يُمكن أن يَكون على هيئات عديدة، لكن الله عزّ وجلّ اختار مِنها الهيئة الأفضل.

“أفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴿٦٨ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴿٦٩ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ “. (الواقعة:68-69-70)

“أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا “. (الفرقان:45)

مِن أين جِئنا:

يَذكر القرآن احتمالات لشرح كيفية خلق الكون ووُجوده:

“أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿٣٥﴾ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ﴿٣٦﴾ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ”.  (الطور:35-36-37)

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ:

وهذا يتنافى مع كَثير مِن القَوانين الطَبيعيّة التي نراها مِن حولنا. فمثال بسيط، كأن نقول إن أهرامات مِصر وُجدت من لا شيء كافي أن يّدحض هذا الاحتمال.

أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ:

خلق الذات. هل استطاع الكون أن يخلق نفسه؟ يُشير مُصطلح “مخلوق” إلى شيء لم يكن موجوداً وَظَهَر إلى الوُجود، الخلق الذاتي هو استحالة مَنطقية وعملية. هذا يرجع إلى حقيقة أن الخلق الذاتي يعني أن شيئًا ما كان مَوجودًا وليس موجودًا في نفس الوقت، وهو أمر مستحيل. والقول إن الإنسان خلق نفسه يعني أنه كان موجوداً قبل أن يكون موجوداً!

إن كثيراً من الناس حين تسأله من أوجدك فيقول ببساطة: والدي هُم السًبب في وُجودي في هذه الحياة، ومن الواضح أنه جواب يُراد به الاختصار وإيجاد مَخرج لهذه المَعضلة. فالإنسان بطبيعته لا يُريد أن يُمعن التفكير ويجتهد، فهو يعلم أن والداه سيموتان، ويبقى هو وتأتي من بعده ذريته لتُعطي نفس الجواب، وهو يعلم أنه ليس له يد في خلق أبناؤه. فالسؤال الحقيقي هو: من أوجد سُلالة الإنسان؟

وقد علق أحدُ المُلحدين على هذه النقطة بقوله: أنه يُمكن العُثور على الخلق الذاتي في الكائنات أُحادية الخلية، والمَعروفة أيضًا في عِلم الأحياء باسم التكاثر اللاجنسي. طبعا جوابي دائما يكون: أنه يجب بدايةً افتراض أن الخلية الأولى مَوجودة أصلاً لطرح هذا النقاش. وإذا افترضنا هذا القول، فإن هذا ليس خَلقاً ذاتياً، بل هو أسلوب تَكاثر، والذي ينشأ من خلاله النسل من كائن حي واحد، ويرث المادة الوراثية لذلك الوالد فقط.

أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ:

ولم يُوجد أحد ادّعى أنه خَلق السّماوات والأرض، إلا صاحب الأمر والخَلق وَحده، هو مَن كَشف عن هذه الحقيقة، عندما أرسل رُسُلَه إلى البشرية، والحقيقة هي، أنه هو خالق وبديع ومالك السماوات والأرض وما بينهما. وليس له شريكٌ ولا ولد.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ”. (سبأ: 22)

ومُمكن أن نَضرب مِثالاً هُنا، وَهُو عند العُثور على حقيبة في مَكان ٍعام، ولم يأتِ أحد ليدّعي أنه صاحب الحقيبة، باستثناء شخص واحد، قام بتقديم مُواصَفات الحقيبة ومُواصَفات ما بِداخلها للدّلالة على أنها لَهُ. في هذه الحالة تُصبِح هذه الحقيبة من حَقّهِ، إلى أن يَظهر شخص أخر غيره ويَدّعي أنها له، وهذا حسب قوانين البشر.

وُجود خالق:

كلّ ذلك يَقودُنا إلى الجّواب الذي لا مَفّر مِنه، وَهُو وُجود خالق. والغريب أن الإنسان يُحاول دائما أن يَفترض احتمالات كثيرة بَعيدة عن هذا الاحتمال، وكأنّ هذا الاحتمال شيء خيالي مُستبعد لا يُمكن تصديقه أو التحقق من وُجوده. فلو وَقفنا وَقفه صادقة، عادلة ونظرة عِلمية ثاقبة، لتَوصّلنا لحقيقة أن الإله الخالق لا يُمكن الإحاطة به، فُهُو الذي خَلَق الكون بأسره، فلا بُد أن ذاته خارج الإدراك الإنساني، ومن المَنطقي أن نفترض أن هذه القُوة الغيبية ليس من السّهل التَحقّق مِن وُجودها، ولا بُدَّ مِن هذه القُوة أن تُفصِح عن ذاتها بنفسها بالطريقة التي تَراها مُناسبة للإدراك البشري. ولا بُدَّ للإنسان أن يَصل لقناعة، أن هذه القُوة الغيبية حَقيقة مَوجودة وأنه لا مَفر من اليقين بهذا الاحتمال الأخير والمتبقي لتفسير سِرّ هذا الوُجود.

“فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (الذاريات: 50)

وأنه لا بُدَّ من الإيمان والتسليم بوُجود هذا الإله الخالق المُبدع، إذا ما كُنّا نَبحث عن دَوام الخير والنعيم والخُلود الأبدي

لماذا نحن هُنا:

أذكر سيدة بريطانية كُنت قد قابلتها في نيجيريا، وسألتني: لماذا خَلَقنا الله؟ 

قلتُ لها: تخيلي نفسكِ غنية جداً وكريمة للغاية، ماذا كُنتِ ستفعلين؟

قالت: كُنت سوف أدعو أصدقائي وأحبابي إلى الطعام والشراب.

قلتُ لها: صفاتنا هذه ما هي إلا جُزء بسيط ممًا عند الله، فالله الخالق له صِفات جلال وَجمال، هو الرحمن الرحيم، المُعطي الكريم، لقد خلقنا ليرحمنا وُيسعدنا ويعُطينا. وكل الصّفات البشرية الجميلة مُشتقة من صِفاته.

وقُلت مُعقبةً: إنه خَلَقَنا وَمنحنا القُدرة على الاختيار، فإما أن نختار طريق الطاعة والعِبادة، وإما أن نُنكر وُجوده ونختار طريق التَمرد والمَعصية.

قالت: لماذا لم يُجبرنا على عِبادته؟

قلتُ لها: كان بإمكانه أن يجعلنا مُكرَهين على الطاعة والعِبادة، لكن الإكراه لا يُحقق الهَدف المَرجو مِن خَلق الإنسان.

فالحكمة الإلهية تَمثلت في خلق آدم وتَميّزه بالعلم.

 ” وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”. (البقرة: 31)

وَمَنَحَه ُالقُدرة على الاختيار.

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”. (البقرة: 35)

 وَفَتح باب التوبة والإنابة له، كون أَنّ الاختيار لا بُدّ وأن يُوقِع في الخطأ والزّلل والمَعصية.

“فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”. (البقرة: 37)

 وكُل ذلك التجهيز ليَجعَلَهُ خليفةً في الأرض.

“وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”. (البقرة: 30)

فالإرادة والقدرة على الاختيار في حد ذاتها نِعمة، إذا تمّ استخدامها وتوجيهُها بصورة سليمة وصحيحة، وتكون نقمة إذا تم استغلالها لمَقاصد ومآرب فاسدة.

  إن الإرادة والاختيار، لا بُد أن تكون مَحفوفة بالمَخاطر والفِتن والكِّفاح وجِهاد النفس، وهي بلا شَكّ أعظم درجةً وتكريماً للإنسان من الخُنوع المُؤدي للسّعادة المُزيفة.

“لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا”. (النساء: 95)

 فما فائدة الثَّواب والعِقاب إن لم يكن هناك اختيار نَستحق عليه الجَزاء؟

وهذا كُلّه مع العِلم أن مساحة الاختيار المَمنوحة للإنسان فِعلياً مَحدودة في هذه الدنيا. والله سبحانه وتعالى سوف يُحاسبنا فقط على ما أعطانا فيه حُرية الاختيار. فالظُروف والبيئة التي نشأنا فيها لم يكن لنا خيار فيها. كما أننا لم نختر آباءنا، كما أننا لا نملك التَحكّم في أشكالنا وألواننا.

عِزّ العِبادة وَلا ذُلّ المَعصِية:

إن عبادة الله لا تقتصر على توجهنا له وحده بالصلاة والصوم فقط، بل إن عبادة الله تعني أيضًا حُبَّهُ وطاعَتَهُ ومَعرِفَتَه ُأكثر. عِبادة الله يَجب أن تَكون هي الهدف النِّهائي لوُجودنا. إنها تُحرّرُنا من “العُبودية” للآخرين والمُجتمع.

إن التسليم لله رب العالمين وَحده يَحفظ كَرامة الإنسان من التذلّل لغيره. ومن كان يبتغي العزة فإنه يَجِدُها في التَقَرّب لرب العالمين بالكلام الطيّب والعمل الصالح.

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ”. (فاطر: 10)

وكُلّما تواضع الإنسان لِرَبّهِ، كُلّما زاده رِفعةً وشأناً.

وأتذكر هنا كلمات أُرددها كثيراً وَهي ” ربي كفى بي عزاً أن أكون لك عبدا، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا “.

ويستشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة في كلمات الرسول عليه السلام:

“وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ.”

وليس كما يَظُن البعض أنّ المُؤمن مأسور بالعبادة. فالإنسان لا بُدَّ أن يكون قَلبُه ُمُتعلق بهدف يسعى لتحقيقه.

وإننا حتمًا، إذا لم نَعبد الله، ينتهي بنا المطاف بعبادة “آلهة” أُخرى. فالقلب إما أن يتعلق بأمر مِن أمور الدنيا يسعى لتحقيقه ويجري ورائه للحصول عليه، أو يتعلق بخالقه وأصل وُجوده، وبالتالي فإن رَغَباتُنا وأهوائَنا قد تستَعبدنا دون أن نشعر. في حين أن ربط قُلوبنا بالله عزّ وجَل وبالأخرة، تُخِرجُنا مِن حَلَقة الاستعباد لغيره، وربّ العالمين هو خالقنا وهو أحق من نلجأ إليه ونستعين به.

كثيراً من الناس ينجذبون إلى الشُهرة والمُوضة. كما أن الإعلانات ووسائط التواصل الاجتماعي، تَشدّ اهتمام الناس بشَكل مُفرِط، ولها دَوْر كبير في بَث مَفاهيم قاصرة، تدعو للاهتمام بالجُزيئات وتشتيت الأولويات، وهذا كُلّهُ يُسهِم في مُعاناتنا، ويَجعَلَنا نعيش حياةً مُضطّربةً وغير سعيدة.

كما أن بعض المعايير الاجتماعية وغيرها من الضُغوط العائلية، التي قد تفرض علينا مُراعاة تقاليد ومفاهيم مَوروثة، تَشدّنا بعيداً عن المَطلوب مِنّا في هذه الحياة وواجبنا تجاه الدين.

الأم مثلا تُعدّ الطّعام لأبنائها على أي حال، إن كانت مُؤمنة أو غير مُؤمنة، لكنّ الُمؤمنة تجُدد نِيّتها وتَهب أعمالها لله، وتنتظر مِنه الجَزاء، فبذلك لن تَحزَن أبداً إذا لم يُقدّر أبناءها مَجهودها، فهي تنتظر ثوابها من الخالق. فبذلك نَجد أمامنا امرأة لا تُحبَط من خِذلان أبناء، ولا تَخاف من رئيس في العمل، ولا تخشَ من تنمر صديق، لأنها قالت بأعلى صوتها: حياتي كُلّها لله.

فنحن لا نملك في هذه الحياة إلا أن نقبل دعوة الله للإيمان به والتسليم له، لنكسب خيري الدُّنيا والأخرة، أو نرضى بالدنيا فتُهلِكنا، ويكون مَصرينا الجحيم.

وإنني أذكر تعليق لمُلحدة بُرتغالية، حاصلة على درجة الدُكتوراة في الفلسفة، عندما قُلتُ لها هذا الكلام، قالت: أنتم مَحظوظون بهذا الإيمان وهذه الطريقة في التفكير. أنا لم أجد هذا الجمال في التفكير في كُتب الفلسفة وَوَجدتُه لديكم أنتم المُسلمون.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *