إن من أعجب الأمور التي تواجهني أثناء حواراتي المباشرة مع المنكرين لوجود خالق للكون، هي أن أسئلتهم متشابهة ومتكررة. فبمجرد أن أقرأ عن شبهة مثارة حول وجود الخالق، حتى أسمعها مباشرة في اليوم التالي خلال نقاشي مع ملحد أثناء عملي.
وهذا تمامًا تصديقًا لقول الله تعالى:
كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (الذاريات).
وما تُقر به الآية الكريمة أنه من درجة تشابه ردود أفعال منكري وجود الله أو منكري رسالاته، وكأن بعضهم يوصي البعض الآخر بها.
سألني ملحد أمريكي يومًا:
ما هو دليل وجود الخالق؟
قلت له:
من أحد مصادر المعرفة التي تستوجب اليقين هو:
الخبر الصادق.
عندنا يقين تام بأسمائنا.
تلقينا أسمائنا من شهادات ميلادنا.
تلقينا شهادات ميلادنا يقينًا من آبائنا.
تعرفنا على آبائنا يقينًا
دون تحاليل DNA.
تعرفنا من الصغر على خارطة العالم، وأيقينا بوجود الدول، وحفظنا أسمائها وعواصمها دون أن نراها بأعيننا.
قال:
يجب أن أرى الخالق بنفسي حتى أؤمن به.
قلت له:
لو ظهر لك صوت وصورة من السماء وقال لك أنا الخالق، هل هذا كاف بالنسبة لك؟
قال: نعم.
قلت له:
وما يدريك أن هذه الصورة وهذا الصوت هو فعلاً من الخالق؟ فمن الممكن أن يكون من الشيطان. فكيف لك أن تثبت أنه فعلاً الخالق؟
قلت له مستطردة:
لقد اشترينا الذهب والفضة وأيقنا بأنهما ذهب وفضة بمجرد حصولنا على الشهادات التي تؤكد ذلك، دون أن نتأكد بأنفسنا.
قال:
هذه أمور يسهل تجربتها حسيًا.
وأنا لا أصدق بشئ إلا عندما أجربه بنفسي.
قلت له:
أثبت لي بالتجربة العملية وجود عقلك.
قلت له أيضًا:
هل جربت بنفسك وتأكدت من وجود الإلكترونات؟
لقد صدقت بوجود الإلكترونات دون تجربة لأن العلوم تراكمية، فلم نسمع عن عالم فيزياء تأكد من نتائج تجارب العلماء الذين جاءوا قبله، بل يستكمل عمله معتمدًا على معلومات هؤلاء العلماء السابقين.
فالمعلومة عندك ليس عبارة عن مصدر مستقل بل هو تابع للعلم بالضرورة.
متى جاءت المعلومة من المختص ( كالدواء من الطبيب و العلم من العلماء و الوحي من النبي) بعد ثبوت كل هؤلاء، فمعلوماتهم تشكل معرفة تُأخذ بعين الاعتبار.
إن معيار صحة الخبر والوحي الصادق كما لخصتها في محاضراتي:
- أن لا ينسب الخبر (الوحي) إلى مصدر وجود الكون صفات بشرية أو حيوانية. لأنه من المنطق أن تكون صفات الخالق مختلفة عن صفات مخلوقاته.
- يجب أن يرفع الخبر (الوحي) من قدر رسول الخالق ويكرمه عن ارتكاب الجرائم والنقائص.
- يجب أن يكون الخبر وهو الوحي في انسجام مع الطبيعة البشرية.
- يجب أن يكون في انسجام مع العلم الحديث.
قال السائل:
وهم تحقيق المنفعة من شئ يجعل الإنسان يعتقد بوجود مصدر لهذه المنفعة. فبمجرد أن كشف لنا العلم السبب العلمي وراء نزول المطر فهذا ينفي وجود خالق.
قُلت له:
إذا كنت تسير في الطريق وضاع منك هاتفك المحمول، ووجدت كابينة هاتف عمومي، وأردت الاستفادة منها، والاتصال بزوجتك، هل استفادتك من وجود هذا الهاتف، واكتشافك لآلية عمله، دليل على عدم وُجود صانع أصلاً لهذا الهاتف؟ أم أن الهاتف العمومي وجود حقيقي وله صانع؟ إن وجود الفائدة لا ينفى وجود الشيء، بل يُؤيده.
قلت له أيضًا:
عندما ينفذ حكم الإعدام بالصعق الكهربائي على قاتل صديقه، فما السبب وراء موت هذا المجرم؟
هل ترى تناقض بين حقيقة الغاية الحقيقية وراء ارتكاب الجريمة وهي السبب الأساسي للحكم عليه بالموت، وبين الوسيلة التي مات بها وهي حقيقة أنه مات بسبب الصعق الكهربائي؟
الخالق هو من وضع قوانين الكون.
فليس من حقك أن تلغي وجود الكاتب بمجرد اكتشاف الكتاب.
والايمان بالله لا يدفعنا الى انكار العلة السببية فالله تعالى يقول في القرآن عن نزول المطر :
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الأعراف:57)
ويقول:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (الروم:48)
والله هنا يذكر لنا علل سببية لنزول المطر لكن الايمان بالله يدفعنا أيضًا إلى الإيمان بالعلة الغائية دون انكار العلة السببية ودون تعارض بين وجود كليهما.
والعلة الغائية هي أن الخالق أيضًا هو من يسير الكون ولا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن في هذا الكون إلا بتدبيره وكل شئ يحدث في هذا الكون بأمره وحكمته.
فلا تعارض بين الإجابتين.
يقول الدكتور مصطفى محمود:
حينما يبدو أن الطبيب هو الذي يشفي والطعام هو الذي يشبع والماء هو الذي يروي والسم هو الذي يقتل، فإنما هي الأسباب تفعل في الظاهر، والله من وراء الأسباب يفعل في الحقيقة.. هو.. أنه هو دائمًا.. هو.
هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
تذكرت أثناء حواري مع السائل ما قرأته يومًا ولفت انتباهي.
قلت له:
الوجود والعدم إذا وُجد أحدهما انتفى وجود الآخر.
فمن هو الأصل، الوجود أم العدم؟
قال:
لنفترض أن العدم هو الأصل.
قلت له:
في هذه الحالة، كيف استطاع العدم الذي هو الأصل أن يتحول إلى الوجود؟
تناقض هذا الافتراض لذاته يدحض هذا الاحتمال تمامًا.
قال:
قد يظهر شئ من العدم بناءً على نظرية الفراغ الكمي.
قلت له:
يجب أن تفرق بين الفراغ والعدم.
الفراغ يقتضي وجوده زمان ومكان وطاقة.
أنا أتكلم عن عدم، حيث لا مكان ولا زمان ولا طاقة.
وهكذا: لو كان العدم هو الأصل، لم يوجد شيء، و بما أنه يوجد موجودات، فالأصل هنا من المحال عقلاً أن يكون هو العدم.
وبهذا الدليل ثبت بشكل عقلي قاطع أنه لا يصح أن يكون العدم هو الأصل، بالتالي فقد ثبت بشكل عقلي قاطع أيضًا: أن الأصل هو الوجود لأن الوجود نقيض العدم.
وقلت أيضًا:
لا يحتاج وجود الأصل إلى تعليل، لأنه متى احتاج وجوده إلى تعليل فلن يصبح أصل.
قلت له مستطردة:
إذا كان الوجود هو الأصل لا محالة، فهل يمكن أن يكون لهذا الأصل بداية؟
قال:
إن ما كان وجوده هو الأصل لا يصح عقلاً أن يكون لوجوده بداية، لأن ما كان لوجوده بداية فلا بد أن يحتاج في وجوده إلى سبب أوجده.
قلت له:
تحليل رائع.
إذًا فإن الأصل ليس له بداية أو نهاية وإلا ما كان أصلاً لورود التناقض العقلي.
إذًا فالأصل أزلي.
قلت له أيضًا:
جميع موجودات الكون التي ندرك وجودها بحواسنا لم تكن موجودة ووُجدت.
وهي عرضة للتحول، التغير، الزيادة والنقصان.
ولقد كانت أجزاء الكون برمتها في طي العدم ثم وُجدت.
وحيث أنها عُرضة للتحول، و لزوم وجود الأسباب لهذه التغيرات، فلقد لزم عقلاً أن يكون لها موجد.
- أن الأصل في الأشياء المحسوسة هو العدم.
- وحيث أن الأصل في جميع هذه الأشياء الكونية العدم، وجب عقلاً أن يكون لها سبب مؤثر نقلها من العدم إلى الوجود.
- أن الوجود يجب عقلاً أن يكون هو الأصل.
- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له بداية.
- أن هذه الأشياء الكونية المدركة بحواسنا يكون الأصل فيها هو العدم، ويحتاج وجودها إلى سبب.
- لا بد عقلاً من وجود موجد عظيم، وجوده هو الأصل في الكائنات وعدمه مستحيل، لذلك فهو واجب الوجود عقلاً.
وهو الخالق سبحانه وتعالى.
مما قرأت وأحببت أن أذكره في هذا المقال:
في بداية القرن العشرين كان عالمنا على موعد مع انقلاب شامل لعلوم الفلك التي توارثتها الأجيال المتعاقبة
لقد كان الاعتقاد الثابت منذ عصر الفلاسفة اليونان وحتى هذا العصر أن الكون استاتيكي ثابت.
وأن الأجرام السماوية كانت كما هي عليه الآن وستبقى كذلك.
حتى ذهب البعض إلى تأليه هذه الكواكب الأزلية والزعم أنها تتصرف في الكون وأقدار الناس.
وكان هذا التصور يمثل طوق انقاذ للفكر الالحادي الذي ادعى أن هذا الكون أزلي بناءً على هذا التصور.
وبالرغم من أن هذا الإدعاء لا يستقيم منطقيًا لأن الزمان الذي نعيش فيه يستحيل أن يكون أزليًا، وإنما لابد أن يكون مخلوق وله بداية، إلا أن التمسك بنتائج علم الفلك كان بمثابة الراية التي اجتمع تحتها معظم الملحدين.
ولكن مع بداية القرن العشرين قام الفيزيائي وعالم الرياضيات الروسي ( الكسندر فريدمان ) بأبحاث أثبتت من خلال التطرق لنظرية النسبية العامة أن الكون لا يمكن أن يكون ثابتًا أو مستقرًا، وإنما هو متحرك بالضرورة، إما بالتوسع أو النقص.
ثم أثبت بعده عالم الفلك (جورج لومتير) اعتمادًا على كشف (فيستو سيلفر) لظاهرة الإنزياح نحو الأحمر سنة 1912م أن الكون يتوسع.
ثم كانت أبحاث (اَأدوين هابل) الأبرز في الدلالة على تأكيد القول بتمدد الكون، فقد كشف في عشرينيات القرن العشرين بعد عمله الرصدي بتلسكوب جبل ويسلون وحساباته الرياضية أن الكون يتمدد بقيمة ثابتة.
لتأتي الضربة التالية من اينشتاين نفسه بعد أن أعلن خطأه بوضع الثابت الكوني في نظرياته لجعل الكون ثابت. بل وأعلن أن هذا أكبر خطأ علمي ارتكبه في حياته. لتأتي الضربة القاضية والتي أذعن بعدها كل العلماء على أن للكون بداية وأنه يتوسع باكتشاف إشعاع الخلفية الكوني في منتصف القرن العشرين.
وتوالت الضربات تلو الضربات لنظرية الكون الثابت حتى أتت الضربة من مرصد هابل الفضائي وأصبح الرصد التجريبي البصري في صف نظرية تمدد الكون.
ليقول الفلكي الانجليزي الملحد (ارثر ادنغتون):
ليس لدي أي فأس للطعن في هذه المناقشة (لكن) مفهوم البداية بغيض الي.
أنا ببساطة لا أؤمن أن النظام الحالي للأشياء قد بدأ بانفجار.
توسع الكون غير معقول. لا يصدق. يتركني أشعر بالبرد.
ويقول الفيلسوف الملحد (ويليام رو):
لابد من الإعتراف بأن ظهور نظرية الإنفجار الكبير المتعلقة بنشأة الكون إن صحت، قد أضافت ثقلاً جديدًا إلى حجة وجود ما يمكن أن يكون خالقًا.
مراجع:
من كتاب العقيدة الاسلامية و اسسها للشيخ عبدالرحمن حسن حبنكة ص127_133
العلم يؤكد الدين، فيس بوك
william rowe, (cosmological arguments), the blackwell guide to the philosophy of religion , ed. william mann (oxford: blackwell, 2005), P.115
Robert jastrow, God and the Astronomers, P.104
مصطفى محمود | عظماء الدنيا والآخرة.