ليس كمثله شئ:
قال الخالق مخبرًا عن نفسه:
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى:11)
يقول ابن القيم:
- قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ من دلائل كثرة صفات الخالق.
لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الأنعام:103)
- وقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ من أقوي الدلائل على أنه يَرى ولا يُدرَك.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد:4)
- وقوله تعالى: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ من أقوى الدلائل على اختلاف الرب عن خلقه، فإنه لم يخلقهم في ذاته، بل خلقهم خارج عن ذاته، ثم اختلف عنهم باستوائه على عرشه.
وهو يعلم ما هم عليه فيراهم ويحيط بهم علمًا، قدرة، إرادة، سمعًا، وبصرًا. وهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا.
وعند تأملنا في هذه المقارنة لفظًا ومعنى وبين قوله: لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وهو يُدْرِكُ الأبْصار، فنجد أنه سبحانه لعظمته يتعالى على أن تدركه الأبصار وتحيط به، وللطفه وخبرته يدرك هو الأبصار.
فلا تخفى عليه خافية، فهو العظيم في لطفه، اللطيف في عظمته، العالي في قربه، القريب في علوه، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
قيمة عليا:
تتعالى الأصوات اليوم بالمطالبة باعتماد صحة جميع ديانات الأرض، و اعتماد جميع تصورات البشر عن خالق الكون.
ويتنافس البشر اليوم على إثبات عدم علو خالق الموجودات على خلقه، أو إثبات حلوله في خلقه(تجسده في مخلوقاته).
فمن أراد أن يتصور أن الخالق شجرة فتصوره صحيح، ومن أراد تصور الخالق حشرة فهو صحيح حسب زعمهم، وتعالى الخالق عن ذلك علوًا كبيرا.
يقول شيخ الإسلام:
والعقل دلَّ على أن الله تعالى فوق العالم.
وفي صدد اهتمامي بمفهوم الحقيقة المطلقة، والذي هو التصور الذي يطابق الواقع، فاجأني زميل لي بمعلومة كنت أجهلها.
حيث قال:
أن مفهوم الحقيقة المطلقة لكل هندوسي وبوذي وغيرها من الديانات الوثنية هو خالق الكون نفسه.
لقد لفتت نظري هذه المعلومة والتي يؤيدها الواقع الحالي لأتباع هذه الديانات أو الفلسفات، والذين بمجرد شعورهم بالخوف الشديد ترتفع أياديهم دون أن يشعروا إلى الأعلى، لجوءًا إلى القوة التي في السماء لنجدتهم.
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( يونس:22)
فوجود القيمة العليا التي تحمل صفات أعلى من صفات البشر، والتي هي مصدر وجود البشر، والتي سوف تحاسِب البشر على أفعالهم، هي حقيقة لا مفر منها حتى لو أنكرها جميع البشر.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:
إن جوهر الإيمان هو: مدى الاستعداد للمحاسبة من قيمة خارجية عليا.
منذ نعومة أظفارنا ونحن معنيون بوجود قيادة عليا في كل مكان.
- للأب قيادة المنزل.
- لمدير المدرسة قيادة المدرسة.
- لكابتن الطائرة والباخرة قيادة الطائرة والباخرة.
- في المجمعات التجارية نبحث عن المسؤول.
- لا يوجد عرض مسرحي أو فيلم سينمائي دون بطل تدور حوله القصة.
- ونسمع عن معبود الجماهير في مسابقات عالمية في مجالات الغناء والطبخ والرقص تعج بها البرامج التلفزيونية.
- ومن هذا المنطلق الذي يؤيد حاجة البشر إلى مصدر أعلى وأسمى من الجميع، رفع فرعون صوته أيضًا وهو ظالم لنفسه عابدًا لها قائلاً: أنا ربكم الأعلى.
ومع كل ذلك، لا زلنا نسمع أصوات تنادي بنفي أو بتشويه حقيقة وجود قوة عليا منظمة للكون، يلجأ إليها الجميع.
فإننا حقًا إن لم نعبد الإله الحق (الخالق) فسينتهي بنا المطاف بعبادة آخرين.
وعبادة الخالق الإله الحقيقي تحررنا من العبودية لمن سواه بما فيها عبادتنا لأنفسنا.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:
اللَّه هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نُسِي اللَّه ركيزة الكون كلها تنتهي.
الحقيقة المطلقة:
في أسطورة هندوسية (العميان والفيل) كنت قد تناقشت عنها مع زميل لي في العمل، وما يقابلها من أسطورة بوذية (العميان والتمثال)، دائَمًا ما يُستدل بها على صحة جميع ديانات وفلسفات الشعوب عن حقيقة مصدر وجودهم والتصور لصفات هذا المصدر.
والهدف الصريح من هذا الاستدلال هو تجنب البشر بكل ما أوتوا من قوة أن يستسلموا للخالق بصفاته الحقيقية التي شرحها لنا من خلال الوحي. يريدون مقاومة الاستسلام لمصدر وجودهم ولاستعلائه عليهم.
لكن هل هذه الأسطورة تؤيد صحة جميع الديانات فعلاً، أم أنها دليل على عدم صحتها أصلاً؟
دعونا نرى.
يحكى أن ستة عميان تناهى إلى سمعهم أن فيلاً كبيرًا سوف يُؤتى به إلى بلدتهم بمناسبة الاحتفال السنوي.
فذهب الستة إلى حاكم البلدة وطلبوا منه أن يسمح لهم بلمس الفيل لأول مرة في حياتهم!!
فهم دائمًا ما يسمعون عن الفيل ومدى ضخامته، لكنهم لم يتصورا شكله قط. لم يمانع الحاكم إطلاقًا إلا أنه اشترط مقابل ذلك أن يصف كل واحد منهم الفيل في جملة واحدة!!
وفي يوم الاحتفال وبحضور أهل البلدة أحاط الرجال الستة بالفيل وبدأ كل واحد فيهم بلمسه من مكان وقوفه.
وبعد ما انتهوا من معاينة الفيل قام كل واحد بوصف الفيل أمام الحاكم وبحضور حشد كبير من العامة فجاء الوصف كالتالي:
- الأول قال: الفيل أقرب ما يكون إلى الحبل.
- وقال الثاني متعجبًا: أين الفيل وأين الحبل؟ بل هو مثل الحائط تمامًا.
- ضحك الثالث ثم قال: يا لها من سخافة حبل وحائط!! كيف هذا والفيل لا يخرج عن كونه خنجر كبير!
- وقال الرابع متهكمًا: ما تقولونه هراء وما يقوله الناس عن ضخامة الفيل هراء أيضًا. فقد كنت أشتاق لمعرفة الفيل وصدمت حينما وجدته مجرد ثعبان بدين غير سام!!
- وقال الخامس ساخرًا: ما كل هذا الهذيان الفيل عبارة عن مروحة يدوية مصنوعة من الجلد!!
- وقال السادس مقهقهًا: هل مسكم طائف من الشيطان؟! يبدو أنكم لمستم شيء آخر غير الفيل، فالفيل ما هو إلا جذع شجرة!!
ويتضح لنا من هذه الإجابات المختلفة أن:
- الأول قال أن الفيل يشبه الحبل لأنه لمس الذيل فقط.
- والثاني قال أن الفيل كالحائط لأنه لمس الجسم فقط.
- والثالث قال أن الفيل كالخنجر لأنه لمس الناب.
- والرابع قال أن الفيل كالثعبان لأنه لمس الخرطوم.
- والخامس قال أن الفيل يشبه المروحة لأنه لمس أحدى الأذنين.
- والأخير قال أن الفيل كجذع الشجرة لأنه لمس القدم.
مما قرأت وأعجبني كتعليق على هذه القصة للدكتور هيثم طلعت(1):
العميان الستة استخدموا:
- العقل.
- التجربة العملية.
- الحس.
- الفلسفة.
فجاءت التجربة قاصرة بقصور هذه المفاهيم جميعها.
وادراكنا نحن رواة هذه القصة أن هؤلاء العميان على خطأ لأننا ببساطة نرى المشهد من الخارج بنظرة شاملة.
إن الفرق بين النظرة الصحيحة الشاملة واجتهاد العميان هو تمامًا كالفرق بين العقل والحس والفلسفة والتجربة العملية وبين الوحي الإلهي.
إن العقل والحس والتجربة والعملية والفلسفة يقدمون معرفة قد تكون نافعة ولكنها قاصرة بقصور قدراتنا وحدود امكانياتنا.
بينما يحكم الوحي الإلهي على المشهد من خارجه فيعطي أحكامًا كلية وشمولية.
فالوحي يخبرنا ب:
صفات مصدر الوجود الحقيقية.
- غاية وجودنا.
- معنى وجودنا.
- ما وراء وجودنا.
بينما العقل والحس والتجربة العملية والفلسفة لن يتقدموا بجواب واحد عن غاية الوجود ولا مصدر الوجود أو القيمة.
ولو حاولوا الإجابة لكانت الإجابة كاجابة العميان بعيدة كل البعد عن الواقع.
يمكن للعقل والتجربة العملية والحس والفلسفة تقديم أجوبة دنيوية لحاجات دنيوية قاصرة مثل:
- أفضل طعام.
- أفضل شراب.
- أفضل طريقة للتجوال حول العالم.
- أفضل حل لمعادلة رياضية.
لكن تبقى هذه الأجوبة هي أجوبة الحيز الدنيوي الضيق المادي المحيط بنا.
وحتى لو قدم العقل والحس والتجربة العملية والفلسفة أجوبة عن غاية الوجود، فلن يستطيعوا تقديم تعريف صحيح عن الأخلاق والمتعة، أو القيم الجمالية أو الصواب والخطأ.
فلا توجد معادلة رياضية تضع رموزًا لمعاني الخيانة أو الأمانة.
المبادئ الأخلاقية مستمدة من الفطرة المتفقة مع التكليف الديني، وليست مستمدة من النشاط الدماغي.
ولهذا فإنه لا غنى للإنسان عن الوحي الإلهي.
الوحي الصحيح:
لقد لخصت في حواراتي و محاضراتي معايير صحة الوحي الإلهي الصحيح والدين الصحيح من المحرف بهذه النقاط.
- ما لا ينسب إلى الخالق صفات بشرية أو حيوانية.
- ما لا يصف أنبياء الخالق بصفات المجرمين وقطاع الطرق والمفسدين.
- الثابت الذي لم يتغير على مر العصور وليس منه نسخ أخرى.
- المحفوظ بلغته الأصلية التي نزل بها.
- ما لا يتعارض مع الفطرة البشرية.
- ما يتوافق مع العلم الحديث.
فعلى سبيل النثال:
منذ مئة عام فقط كان العلم التجريبي بعيدًا عن الحقائق العلمية في القرآن الكريم بعدًا كبيرًا.
بينما نجد اليوم أن العلم التجريبي وحقائق القرآن الكريم يقتربان أكثر وأكثر مع أن القرآن الكريم ثابت والعلم التجريبي في تغير مستمر.
الدين الصحيح:
يقول تعالى مخبرًا عن نفسه:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
هذا الخالق الذي هو خالق بوذا ورام وكرشينا، خالق الأنبياء محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام.
والدين الصحيح يكون ب:
- عبادة هذا الخالق بصفاته الصحيحة مباشرة بدون قسيس أو قديس أو نبي بما فيهم نبي الله محمد أو أي فرد من آل بيته أو أي وسيط آخر.
- الإيمان بأنبيائه ورسله من آدم إلى محمد، بما فيهم موسى، والمسيح الذي خلقه الخالق بلا أب كما خلق آدم بلا أب ولا أم.
- الإيمان باليوم الآخر للحساب.
عنادا واستكبارا:
يقول ابن تيمية:
إن جحود الإنسان وعدم تقبله لاسم الله الأعلى وعلو سلطة الله عليه تعود لسبعة أمور:
- الهوى، أي اتباع الرغبات.
- الشك.
- الظن.
- العادات.
- الغرض الفاسد بفساد النية.
- الاتباع الأعمى.
- موروث الاعتقاد.
ومن البشر من ينكر علو الخالق مطلقًا، ويقول:
ليس فوق العالم شيء أصلاً، ولا فوق العرش شيء.
ومنهم من يقول:
الخالق ليس داخل العالم ولا خارجًا عنه، ولا حالًّا فيه، وليس في مكان من الأمكنة.
وكثير منهم يقول:
لا هو داخل العالم ولا خارجه.
وفي حال عبادتهم للخالق يقولون بأنه في كل مكان، ولا يخلو منه شيء، حتى يصرحون بالتجسد في كل موجود – من الحيوانات وغيرها – بل بالاتحاد بكل شيء،، بل يقولون بالوحدة التي معناها أن الخالق عين وجود الموجودات.
يعلل ابن تيمية سبب هذا التناقض فيقول:
وسبب ذلك أن الدعاء والعبادة، القصد، و الإرادة، والتوجه يطلب موجودًا، بخلاف النظر، والبحث، والكلام.
ويقول:
إن العلم، الكلام، البحث والقياس، يتعلق بالموجود، والمعدوم. فإذا لم يكن القلب في عبادة، توجه، ودعاء، سهل عليه نفي صفات الخالق أو سلبها، والإعراض عن اثباتها. بخلاف ما إذا كان في حال الدعاء والعبادة، فإنه يطلب موجودًا يقصده، ويسأله ويعبده.
وجميع هذه التصورات تبقى كتصورات العميان في القصة السابقة.
فالخالق جل وعلا هو الرب الأعلى الذي يعلو على مخلوقاته.
قد ذكر شيخ الإسلام دلائل علو الخالق:
- أن هذا أمر مستقر في فطرة بني آدم، معلوم لهم بالضرورة.
- أن لجوئهم إلى ربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو، وذلك في دعاء العبادة، ودعاء المسألة – إنما يكون إلى جهة العلو. فكما أنهم مضطرون إلى دعائه ومسألته، هم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يتوجهون إلى غيره من الجهات.
- وحتمية علو الخالق متفق عليها بين العقلاء سليمي الفطرة، وكل منهم يخبر عن فطرته من غير اتفاق بين بعضهم البعض. لكنهم قد يتفقوا على تعمد الكذب عادة.
- أنه إذا ثبت أن العالم كرة، فلا بد أن يكون الخالق مباينًا لخلقه، والعلو المطلق يكون فوق الكرة، فيلزم أن يكون الخالق في العلو.
مواضيع ذات صلة.
(1)كتاب رسول الأميين.
دكتور هيثم طلعت.