بينك وبين نفسك:

أذكر أن أثنت عليَّ مُدرسة اللغة الألمانية مرةً قائلة:

من زرع فيك كل هذه الطاقة في حب العلم وبذل المجهود والمال والصحة في الدراسة والعمل ورعاية أولادك؟ 

قلت لها: 

من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:

اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك. 

قالت: 

عجيب! قمة في الحكمة، أنتم نوع فريد من البشر.

 فتذكرت حينها الآية الكريمة: ” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”، وحمدت الله كثيراً.

يقول أحد المستشرقين:

إذا أردت أن تهدم حضارة أمّة فهناك وسائل ثلاث: اهدم الأسرة والتعليم وأسقط القدوات والمرجعيات.

ويشكل هدم الحضارات نتيجة حتمية لأفكار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي دعى إلى هدم المرجعيات والسرديات الكبرى.

وهذه الفكرة تبنّاها الغرب وسعى إليها، ودعى إلى إلغاء السرديات الكبرى، والتي تضم معرفة حقيقة:

  • مصدر الوجود.
  • غاية الوجود.
  • المآل بعد الموت.
  • الحساب والعقاب.

فالسرديات الصغرى تعني أن الأمور نسبية وليست مطلقة، وكل فرد عليه أن يأخذ بما يراه مناسبًا.

فلا حساب ولا عقاب ولا رقيب.

فمن أراد أن يتخذ الحجر إلها فهذا صحيح بالنسبة له، ومن عبد البقر فهذا صحيح بالنسبة له، ومن رأى الزنا مناسبا فهذا صحيح بالنسبة له، ومن تكون السرقة في مصلحته فهذا صحيح بالنسبة له، حتى تشوهت المعايير والقيم.

لقد أدى تشوه المعايير الأخلاقية و تغييب منظومات المبادئ الرفيعة و المفاهيم العليا إلى تسهيل صعود السطحيين فكرياً و المنحلين أخلاقياً و وصولهم الى مراكز القرار في الإدارة و التجارة و التعليم و تمكّنهم منها، في سابقة تاريخية لم تشهدها أية مرحلة حضاريةٍ أخرى.

إن هوية الإنسان تتغير في كل لحظة، حسب مشاهدته للفضائيات، أو استخدامه للتكنولوجيا أو تعصبه لفريق كرة قدم مثلاً.  لقد صنعت العولمة منه إنسانًا معقدًا. الخائن أصبح صاحب وجهة نظر. والشاذ أصبح صاحب سلوك طبيعي، وأصبح لديه الصلاحية القانونية للمشاركة في نقاشات علنية، بل وعلينا دعمه والتصالح معه.

وأصبحت الغَلبة لمن لديه التكنولوجيا، فإذا كان الشاذ هو الطرف الذي يمتلك أسباب القوة، فسيفرض على الطرف الآخر قناعاته. مما أدى إلى إفساد علاقة الإنسان بنفسه وبمُجتمعه وبخالقه.

فالإيمان بخالق الكون، واحترام قوانين الكون التي خلقها لنا، والالتزام بأوامره ونواهيه، ومعرفة هدف وجودنا، هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة.

هذا قرار بين الإنسان ونفسه، إما أن يكون شي أو أن يكون لا شئ.

كل يعمل على شاكلته:

عند قراءتي لكتاب “نظام التفاهة” الذي كتبه باللغة الفرنسية الفيلسوف الكندي” ألآن دونو”، كان قد لفت نظري ما ذكره عن العمل الدؤوب للتافهين.

حيث قال:

إن التافهين لا يجلسون خاملين؛ إنهم يؤمنون أنهم يعرفون كيف يعملون بجهد، فالأمر يتطلّب مجهوداً للخروج ببرنامجٍ تلفزيونيٍّ ضخم أو ما شابه.

فالجودة التقنيّة ضرورية لإخفاء الخمول الفكري الشديد الذي تنطوي عليه العديد من المِهن ذات الأفكار التافهة، من خلال التزامهم بالمتطلبات الدقيقة لهذا العمل. مع العلم أن ابتذال الأشخاص التافهين هو أمر يغيب عن بالهم هم أنفسهم.

تتجلى أدوات صناعة التفاهة في المشاهير والأثرياء الذين يتسارعون إلى الدفاع عما يسببه من كوارث مدمرة بيئياً وبشرياً. أما العمل الهادف الحقيقي فيختفي، إذ أن المطلوب هو فن بلاستيكي يُنتج سلعاً فنيةً لا تعكس سوى صورة التفاهة الاقتصادية. 

كما تلعب وسائل الإعلام و التواصل الإجتماعي دور الأساس في التفاهة الحاصلة، عندما يسوق أشخاص تافهون للمنتوجات و السلع فقط لقاعدة الجماهير التي يجلبونها، دون علم حول خلفيات الموضوع. 

ويجب أن نعترف أن الإعلام له قوة مسيطرة على العالم ومفروض على الجميع، وليس لأحد السلطة على محاسبته.

أذكر هنا حوارا كنت قد شاهدته يوما مع ممثلة عربية كان قد نال منها الجهل ما لم ينل من أحد حيث قالت:

كيف يخلق الخالق الديانات ويقول لهم كفروا بعضكم البعض، وهو الذي خلق هذه الديانات؟

وتقول الممثلة أن الديانات جميعها صحيحة بدليل أن الخالق قد خلقها.

كلماتها جعلتني أزداد يقينا أننا نعيش في عصر التسطيح الفكري وانعدام الثقافة، وأصبحت التفاهة هي سيدة الموقف، وتعرّف التفاهة بأنها كل شيء بلا قيمة أو محتوى أو معنى، وقد يتسع نطاق التعريف ليشمل الكثير من الممارسات غير الأخلاقية التي تتنافى مع قيم المجتمع والدين والموروث الثقافي أحياناً.

وفى ظل هذه البيئات السيئة، يتحول سطحي التفكير إلى رمز،، وذلك بما أتاحه الإعلام من إمكانيات هائلة للنشر والتأثير فى الثقافة والقيم والوعى، وحولت حمقى وتافهين ومهرجين إلى مشاهير، والذين تجاوزت نسبة مشاهدتهم ومتابعتهم الملايين من الأفراد.

بل وصلت التفاهة إلى المزايدة على الدين ممن يسير بعض الناس خلفهم ويتخذونهم قدوة كصاحبة قصتنا هذه، فأصبحوا يلهثون وراء المادة أو الشهرة.

وأرد بدوري على جهل هذه الممثلة قائلة:

الخالق لم يخلق أديانا.

الخالق خلق بشرا وزودهم عن طريق الرسل بدين واحد وهو عبارة عن نظام حياة.

إن الدين هو:

مَجموعة العِلاقات وَالأخلاقِيّات وَالقِيم التي تَربُط الإنسان بِخالقه، وَبِالمُجتمع مِن حَولِه.

منذ عهد آدم أبو البشر، كان الخالق يختار الأتقى في قومه كرسول لهم كلما حُرِّفت رسالة النبي السابق وحادوا عن الطريق المستقيم، واختلفوا فيما بينهم بعبادة غير خالقهم، ولتقديم أجوبة شافية لهم عن الأسئلة الوجودية التي تدور في خلدهم (مصدر وجودهم والهدف من وجودهم ومآلهم بعد الموت).

قال الخالق:

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ … (النحل: 36).

وقد استخدم الخالق في الآية السابقة صيغة الجمع في الإشارة إلى نفسه للدلالة على عظمته سبحانه وتعالى.

 تتلخص رسالة الرسل بما يلي:

  • الإيمان بأنه لا إله إلا الله (الخالق) وحده، الذي ليس له شريك ولا ولد، وهو الخالق والرازق للكون وما يحتويه.
  • اجتناب الطاغوت (الوثنية). بمعنى الالتزام بعبادة الله وحده بدون وسيط، كما فعل الرسول، وليس عبادة الرسول نفسه باللجوء إليه بالطلب، أو جعله إلهًا.
  • اتباع الشريعة التي جاء بها الرسول مناسبة لزمانهم. مع تصديق الرسالات السابقة في أصل التوحيد، ومن ضمن وصايا الرسل البشارة بقدوم خاتم النبيين، محمد عليه الصلاة والسلام، والحث على الإيمان به واتباعه لمن أدرك زمانه أو سمع عن رسالته لاحقًا.
  • فعل الخيرات واجتناب السيئات، استعدادَا للقاء الخالق بعد الموت للحساب، ومن ثم الثواب أو العقاب.

فعبادة الأصنام وعقيدة الثالوث واللجوء إلى الوسطاء من قساوسة وقسيسين، و اللجوء إلى نبي الله محمد أو لآل بيته بالاستعانة والطلب هو ما خلق أديانا ومذاهب كثيرة باطلة.

وأذكر تعليقًا لطيفًا من مسن ألماني عندما شرحت له تعريف دين الإسلام أن قال لي:

هذا دين جديد لم أسمع به من قبل، وهو منطقي وتتوحد به البشرية. أنا أعيش بين مسلمين لكن لم أفهم الإسلام بهذه الصورة أبدًا.

قلت له:

هذا هو الدين العالمي القديم الجديد والأبدي منذ عهد آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وهو:

عبادة خالق الكون واللجوء إليه مباشرة. وهو الخالق الواحد الأحد الذي لا يأتي إلى الأرض في صورة إنسان ولا حيوان، والذي خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق المسيح من غير أب، فهو الذي يخلق ولا يلد. وعلى البشر ترك عبادة الأصنام وترك عقيدة الثالوث، وترك اللجوء إلى الوسطاء من قساوسة وقديسين وأولياء، وعدم اللجوء إلى القبور وعدم اللجوء إلى نبي الله محمد أو لأي فرد من آل بيته، أو اللجوء لأي من أنبياء الله بالطلب والاستغاثة. ويجب على البشر الإيمان بجميع أنبياء الله من آدم إلى محمد بما فيهم المسيح وموسى عليهم الصلاة والسلام أجمعين.

وتقصير المسلمين في تبليغ الرسالة الصحيحة للإسلام، أو معاملتهم السيئة لغير المسلمين، أو تخلفهم العلمي بعد أن كانوا رواد العلم المادي والمؤسسين له ليس له علاقة في الدين الصحيح في شيء.

فدين الإسلام دين مثالي، لكن المسلمين غير مثاليين.

الفيلسوف النمساوي ليوبولد فايس – الذي ترك اليهودية واعتنق الإسلام وغيَّر اسمه لمحمد أسد – قال في كتابه “الإسلام على مفترق الطرق”:

“إن الحرص على انتشار الإسلام لم يحث عليه حب السيطرة، وليس فيه شيء من الأنانية الاقتصادية أو القومية، ولا الطمع في زيادة أسباب رفاهيتنا الخاصة على حساب شعب آخر. ولم يُقصد منه في يوم من الأيام إكراه غير المؤمنين على الدخول في الإسلام، لقد قُصد به دائمًا ما يُقصد به اليوم من بناء إطار عالمي لأحسن ما يمكن من التطور الروحي للإنسان. إن المعرفة بالفضائل – حسب تعاليم الإسلام – تفرض على الإنسان من تلقاء نفسه العمل بالفضائل، وأما الفصل الأفلاطوني بين الخير والشر من غير الحث على زيادة الخير ومحو الشر، فإنه فسقٌ عظيم”.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

سيأتي على الناس سنوات خدّعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة

ويمثل هذا الحديث الشريف أكبر شهادة لنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأكبر شهادة لدقة وموثوقية سند الحديث الشريف.

هدف نبيل:

أذكر تعليق لدبلوماسي غربي عندما كلمته عن وجود الخالق حيث قال:

أنت تتكلمين عن أعظم حقيقة في الوجود.

وقد أثار تعليقه مشاعر دفينة في نفسي، حيث أنني منذ أن بدأت طريقي في الدفاع عن حق الخالق في حواراتي ومحاضراتي وجولاتي حول العالم، شعرت بعدم الرغبة في الحديث عن أي موضوع آخر، حيث شعرت بتفاهة أي موضوع مقابل هذا الموضوع.

بدأت لا أستمتع إلا بموضوع يقودني بالنهاية للحديث عن حق رب العالمين.

فالحديث عن حق خالق الكون من الأهداف النبيلة التي تنقي قلب صاحبها من كل ما هو تافه.

وبطبيعة الحال الخالق لا يحتاج لدفاع البشر عن حقه. ولكن أساس مهمة البشر على كوكب الأرض هو إقامة العدل ووضع الأمور في نصابها.

وذلك عن طريق الحفاظ على دين يضع العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في المكان الصحيح، في الوقت الذي أساءت فيه الحضارات البشرية الأخرى التعامل مع الله، فقد كفرت به، وأشركت معه مَخلوقاته في الإيمان والعبادة، وأنزلته منازل لا تتلاءم مع جلاله وقدره.

وإننا حتمًا، إذا لم نعبد الخالق، ينتهي بنا المطاف بعبادة “آلهة” أُخرى. فالقلب إما أن يتعلق بأمر مِن أمور الدنيا يسعى لتحقيقه ويجري ورائه للحصول عليه، أو يتعلق بخالقه وأصل وجوده، وبالتالي فإن رغباتنا وأهوائَنا قد تستَعبدنا دون أن نشعر. في حين أن ربط قلوبنا بالله عزّ وجَل وبالآخرة تُخرجنا من حلقة الاستعباد لغيره، وربّ العالمين هو خالقنا وهو أحق من نلجأ إليه ونستعين به.

كثيراً من الناس ينجذبون إلى الشُهرة والمُوضة. كما أن الإعلانات ووسائط التواصل الاجتماعي تَشد اهتمام الناس بشَكل مُفرط، ولها دَوْر كبير في بث مفاهيم قاصرة تدعو للاهتمام بالجزيئات وتشتيت الأولويات، وهذا كُلّهُ يُسهِم في معاناتنا، ويجعلنا نعيش حياةً مضطربةً وغير سعيدة.

كما أن بعض المعايير الاجتماعية وغيرها من الضغوط العائلية التي قد تفرض علينا مراعاة تقاليد ومفاهيم موروثة، تَشدّنا بعيداً عن المطلوب منّا في هذه الحياة وواجبنا تجاه الدين.

الأم مثلا تُعدّ الطّعام لأبنائها على أي حال، إن كانت مؤمنة أو غير مؤمنة، لكن المؤمنة تجدد نِيّتها وتَهب أعمالها لله، وتنتظر منه الجزاء، فبذلك لن تحزن أبداً إذا لم يُقدّر أبناءها مجهودها، فهي تنتظر ثوابها من الخالق. فبذلك نجد أمامنا امرأة لا تُحبَط من خِذلان أبناء، ولا تخاف من رئيس في العمل، ولا تخش من تنمر زميل، لأنها قالت بأعلى صوتها: حياتي كُلّها لله.

فنحن لا نملك في هذه الحياة إلا أن نقبل دعوة الخالق للإيمان به والتسليم له، لنكسب خيري الدُّنيا والأخرة، أو نرضى بالدنيا فتُهلِكنا، ويكون مصيرنا الجحيم

يقول ابن القيم:

“إن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يُزيلها إلّا الأُنس به في خلوته، وفيه حُزن لا يُذهبه إلّا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلّا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطى الدنيا وما فيها، لم تُسد تِلك الفاقة أبدا.”


مراجع:

كتاب دين عالمي

فاتن صبري

كتاب لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

فاتن صبري

Comments(2)

    • عمرو عثمان

    • 2 years ago

    ما شاء الله ، مقال اكثر من رائع

      • Admin

      • 2 years ago

      جزاكم الله خيرا

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *