أذكر أنني واجهت نقاشًا عنيقًا مع علماني عربي:

حيث قال:

البشر هم من عليهم تحديد الحقوق الطبيعية.

تخيل أنك كنت ضيف على شخص يملك منزل ضخم يحتوي على غرف مفروشة بأثاث جميل وطاولة طعام وأدوات مطبخ، الخ.

والسؤال هنا:

هل يحق لك أن تأكل على طاولة طعامه، وتستخدم أدوات مطبخه أو أن تكسر أحد قطع أثاثه دون إذنه؟

طبعًا هذا الفعل سيكون مذمومًا عند كل عاقل، لأنك تصرفت في ملك غيرك دون إذنه.

السؤال اﻵن:

لو سمح لك مالك المنزل بالتصرف في موجودات المنزل، هل يحق لك التصرف في هذه الحالة؟

بالطبع يختلف جواب العقل هنا وأصبح يجيب باﻹثبات.

اختلفت اﻹجابة هنا لأن مفهوم الحق مرتبط ارتباطًا كليًا بمفهوم الملكية.

فالمالك هو الوحيد الذي له حق التصرف في ملكه. وهو الوحيد الذي له الصلاحية أن يعطي الغير الحق أن يتصرف في ملكه. وبدون إذن المالك يُعتبر أي تصرف في موجودات المنزل تصرف في ملك الغير، وهو فعل مذموم وقبيح عند عقلاء البشر.

يبني العقل على أن هذا الكون له خالق أوجده من العدم، وهذا الخالق يتصف بصفات الكمال،

السؤال هنا:

هل العقل يخبرنا أن هذا الكون هو مخلوق فقط لهذا الخالق؟ أم هو مملوك أيضًا لهذا الخالق؟

فالخالق مالك.

على سبيل المثال:

عندما أصنع شيئًا بجهدي وتعبي، فلسوف يفهم الناس مباشرة أنني مالكة لهذا اﻹختراع.

فإذا حكم العقل على مصنوعات اليوم بالملكية لصناعها والتي لم تُصنع من العدم، فما بالك بمن خلق الكون بما فيه من مخلوقات، فهو أجل وأعلى لأنه خلق من العدم، فملكية الخالق هي الملكية الحقيقية.

فبما أن الخالق مالك لما يخلق، فبالتاي الخالق لهذا العالم هو الوحيد الذي له الصلاحية بتحديد الحقوق والحريات فيما يخص ملكه.

نفهم مما سبق أنه لا بد أن تستند الحقوق على ما يحدد الخالق للبشر عن طريق التواصل معه.

سألني بريطاني مسن يومًا:

ما هو الدليل على تواصل الخالق مع خلقه عن طريق الرسل؟

قلت له:

يوجد في داخل النفس البشرية دافعًا فطريًا شديدًا لمعرفة أصله ومصدر وجوده والغاية من وجوده، إن فطرة الإنسان تدفعه دومًا للبحث عن المتسبب بوجوده. غير أن الإنسان وحده لا يمكن له أن يُميِّز صفات خالقه والهدف من وجوده ومصيره إلا من خلال تدخل هذه القوى الغيبية، وذلك بإرسال رسل لتكشف لنا عن هذه الحقيقة.

مثلاً إذا بنى الإنسان مسكنًا، ثم تركه بدون منفعة له أو لغيره أو حتى لأولاده، فإننا بطبيعة الحال نحكم عليه بأنه انسان غير حكيم أو غير سوي. لذلك – ولله المثل الأعلى- فإنه من البديهي أن يكون هناك حكمة من خلق الكون، وتسخير ما في السماوات والأرض للإنسان.

فنفهم من هذا أن تشريع حقوق للإنسان وغيرها من دون ادخال عنصر الخالق واذنه هو تصرف في ملك الغير، وبالتالي فهو عمل مذموم وفاقد القيمة المنطقية والعقلية.

مما قرأت ولفت انتباهي:

في العاشر من ديسمبر من عام 1948 وفي باريس تحديدًا، اعتمدت اﻷمم المتحدة اﻹعلان العالمي لحقوق اﻹنسانن بوصفه على أنه المعيار المشترك الذي ينبعي أن تستهدفه كافة الشعوب واﻷمم، وهو يحدد وللمرة اﻷولى حقوق اﻹنسان اﻷساسية التي يتعين حمايتها عالميًا، مثل حق حرية الحياة وحرية اﻹعتقاد، وحرية التعبير، والحق في التعليم والملكية الخ.

يستطرد الكاتب قائلاً:

تبدو هذه الحقوق عقلية ومنطقية ولكن تُذكر دون أي دليل واضح عليها.

بينما يكثر الاستدلال على صحتها بطريقين:

  • التنبيه على فائدتها وأثرها.

فمثلاً ذُكر في وثيقة حقوق اﻹنسان:

” كان غاية ما يرنو إلية عامة البشر هو انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة”.

  • توافقها مع طبيعة البشر، وميلهم إليها واضطرارهم لها.

يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو وهو أحد المنظرين لفكرة الحقوق الطبيعية:

“الحرية جزء من طبيعة اﻹنسان، واﻹنسان لا يستطيع التنازل عن طبيعته”.

لكن هل هذه الطرق في اﻹستدلال صحيحة منطقية؟

ما المقصود أصلاً بالحق؟

الحق هو الشئ الثابت الفاعل الذي يقبح عدم مراعاته من قبل الجميع وبلا استثناء،، مثل التعامل بالعدل والوفاء بالعهد وحفظ اﻷمانة، الخ.

فبناءً على ذلك تكون الطريق الأولى للإستدلال على الحقوق من خلال بيان أثرها لا يصح عقلاً، لأنه بمجرد كون حقوق اﻹنسان نافعة لشخص معين أو لمجموعة من التاس لا يعني أنه حق من حقوقه ويجب على اﻵخرين مراعاته.

ومجرد كون فكرة ما لصالحي لا يعني أنها صحيحة.

مجرد كونها مصالح لا يجعلها حقوق طبيعية ملزمة للآخرين.

بالنسبة للطريق الثانية وهي الاستدلال على الحقوق عن طريق توافقها مع طبيعة البشر، فهنا نسأل سؤال مهم:

هل مجرد الميل النفسي لأمر ما يعتبر المسوغ للمطالبة في واعتباره حق؟

لقد وجدت خلال سفري مع زوجي أن في بعض الدول اﻷفريقية يميل الناس إلى قضاء حاجتهم في الطرق العامة وعلى مرأئى من الجميع، فهل يجعل هذا الميل لهم الحق على اﻵخرين بدعمهم والدفاع عن حقوقهم؟

هل ميل السارق إلى السرقة حق من حقوقه؟

فعقلاً الميل اﻹنساني لفكرة معينة لا يجعلها صحيحة، بل المعتمد دائمًا وأبدًا هو تقديم دليل عقلي ومنطقي يوضح بدقة جواب على هذا السؤال.

لماذا يملك اﻹنسان حق على اﻵخرين يجب عليهم مراعاته؟

فلا يكفي لإجابة هذا السؤال أن يقال لأنها تتوافق مع طبيعته وميله فيجب على الجميع مراعاتها.

سألتني أمريكية يومًا قائلة:

لماذا لا تعترفون أنتم المسلمون بحقوق المثليين؟

قلت لها:

و هل تعترفين بحق ممارسة زنا المحارم؟

قالت:

لا، لا أعترف. هذا التصرف مشين ويؤثر على السلامة العقلية لأفراد المجتمع.

قلت لها:

لماذا؟ و هل أنتِ من يقرر نوعية الحفوق المسموحة والمؤثرة على السلامة العقلية من عدمها؟

من أكثر من مئة عام كان الاعدام عقوبة المثلية الجنسية، وخففت العقوبة لاحقًا للمؤيد، ووصل التخفيف إلى عدد سنوات قليلة في السجن إلى أن وصل إلى غرامة مالية بسيطة، ثم السماح به لدرجة اعتباره حق شرعي ومدعوم ثم الدفاع عنه وعقاب من يهاجمه.

من الذي يمنع البشر لاحقًا من اتباع نفس السياسة مع زنا المحارم؟ وقد شاهدت بالفعل مؤخرًا قيديو لأخ وأخته يطالبان بحقهما بإقامة علاقة زوجية وتسجيل زواجها رسميًا.

نحن بحاجة لنظام ثابت لا يحضع لأهواء البشر، من خالق البشر نفسه الذي يعلم طبيعتهم وما يصلح لهم وما لا يصلح.

هناك مشاكل فلسفية تعترض مفهوم حقوق اﻹنسان والحقوق الطبيعية.

ما هو مفهوم اﻹنسان؟

هل اﻹنسان هو الكائن الذي يتكون في بطن أمه قبل الولادة؟ أم أن اﻹنسان هو الطفل المولود؟ وهل المجنون إنسان؟ وماذا عن المعاق؟

لماذا يتم حصر الحقوق في اﻹنسان فقط؟

فإنه إذا كان هناك حق طبيعي ثابت لكل كائن حي محتار فليزم أن تشمل هذه الحقوق حقوق جميع الكائنات بلا استثناء.

فليزم مراعاة حق الحياة للحيوانات، والحشرات، والنباتات، بل حتى البكتيريا والجراثيم.

وإذا سلمنا بوجود فعلاً من يعترض على أكل لحوم الحيوانات من بعض النباتيين بحجة حقوق الحيوان، فلماذا لا تتم المطالبة بحق الحيوانات التي تحبس في الحدائق والحشىرات التي تباد بالمبيدات، بل حتى الجراثيم التي تقتل بمعجون اﻷسنان. فعدم مراعاة حقوق هذه الكائنات بعتبر نقض للقاعدة اﻷساسية التي بنيت عليها نظرية الحقوق الطبيعية، بل وبعتبر جريمة.

إذًا، نعود للسؤال المحوري:

من الذي جعل هذا الحق للإنسان؟

هل اﻹنسان هو الذي جعل الحق للإنسان؟

من أين له هذا الحق أصلاً؟ وإذا ثبت أنه لا حق له في تأسيس الحقوق، فما هو البديل إذًا؟

لقد أسس دين اﻹسلام لحقوق وكرامة اﻹنسان منذ 14 قرنًا:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)

جعل اﻹسلام التعليم أمر وليس مجرد حق.

أعطى المرأة حق الخلع، وحرية التصرف في مالها.

 المساواة بين البشر عبارة عن خصوصية أخلاقية وليست حقيقة طبيعية أو مادية أو عقلية، فالناس من المنظور المادي أو الطبيعي أو العقلي بلا شك غير متساوين فمنهم الطويل والقصير ومنهم الأبيض والأسود على سبيل المثال، وتأسيسًا على الإيمان بالخالق والدين فقط يستطيع البشر المطالبة بالمساواة، فالقول إن البشر متساوون ممكن فقط إذا كان الإنسان مخلوقًا لله.

قال تعالى في سورة النساء:١

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

يقول علي عزت بيجوفيتش:

الأخلاق كظاهرة واقعية في الحياة الإنسانية، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا عقليًا، ولعل في هذا الحجة الأولى والعملية للدين. فالسلوك الأخلاقي، إما أنه لا معنى له، وإما أن له معنى في وجود الله، وليس هناك اختيار ثالث. فإما أن نسقط الأخلاق باعتبارها كوْمة من التعصُّبات، أو أن نُدْخل في المعادلة قيمة يمكن أن نسميها الخلود، فإذا توافر شرط الحياة الخالدة، وأن هناك عالمًا آخر غير هذا العالم، وأن الله موجود، بذلك يكون سلوك الإنسان الأخلاقي له معنى وله مبرر.

 مما قرأت وأعجبني:

 إن الملحد عندما ينكر وجود الإله بسبب وجود الشر فهو يناقض نفسه. يقر الملحدون أنهم لا يؤمنون بوجود إله، بدعوى أنهم لا يؤمنون إلا بما هو مادي محسوس، بالتالي ينكرون العالم الغيبي، من ملائكة، وجن، ورسالات سماوية، وأنبياء ومعجزات، ويعترفون في المقابل بالمادة «الطبيعة».

و الطبيعة أو المادة (البيئة) بإقرارهم محايدة تمامًا؛ لا تخضع لحتمية الشر ولا لحتمية الخير، فضلاً أن تكون خاضعة للأخلاق أو مصدرًا لها. وإذا كان الإنسان ابن الطبيعة، وماديًا محضًا، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلماذا لم يكن الإنسان محايدًا هو الآخر عن الخير والشر والأخلاق؟

كيف يفتخر الملحد بأخلاقه بينما الطبيعة باعترافه لا تعرف الأخلاق حسب زعمه؟ هذا يعني أن المفاهيم الأخلاقية التي يفتخر بها الملحد هي هبة من الخالق التي ينكر هو وجوده، وهذا ما نصطلح عليه بالفطرة، التي أودعها الله فينا لنكون جاهزين لاستقبال رسالاته التي يبلغنا إياها بواسطة أنبياء ورسل، وهذه هي الرسالة، أما العقل فبه نتصل بالعالمين:

غيبي ــ لأن جزءً مهمًا من العقل تجريدي – فنتعقَّل الرسالات السماوية.

المادي: لنستطيع إعماره وفق ما تمليه الرسالة السماوية الخُلقية.

 يقول الملحد البريطاني ريتشارد دوكنز في كتابه: “النهر الخارج من جنة عدن”:

“إن الطبيعة ليست شريرة، لكنها للأسف غير مبالية، وهذا من أصعب الدروس التي ينبغي أن يستوعبها الإنسان، فمن الصعب علينا الإقرار بأن كل الأمور ليست خيرة أو شريرة، ليست رحيمة أو شرسة، إنها لا مبالية بكل آلام الإنسان، إذ ليس لدى الطبيعة أي هدف”.

تنادي بعض الأديان صراحة بنظام الطبقية تدينًا، فالهندوسية تقسم الناس إلى خمس درجات أشراف وغيرهم (براهمان، كشاترياس، فيشاش، شدراس، داليتس)

وكل أديان الهند تؤمن بالكارما (حالة الإنسان من الغنى والفقر متوقفة على عمله الذي عمل في حياته السابقة)، وعليه فنظام الطبقية معتمد لديهم.

إضافةً إلى أن اليهودية تقوم على العرقية: دين أبناء إسرائيل “شعب الله المختار”.

بينما يتميز الإسلام عن بقية الأديان بالمساواة المطلقة بين بني آدم.

سألني شخص يهودي يومًا:

ألم يقل الله عنكم في القرآن:

كنتم خير أمة أخرجت للناس؟ فأنتم تأمنون بالعرقية كاليهود تمامًا.

قلت له:

هذه الآية نزلت بناءً على علم الله المسبق أن المسلمين سوف يحفظوا رسالة خالقهم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وليس بناءً على تمييز عرقي، فأعداد المسلمين تزداد يومًا بعد يوم من جميع الأمم والشعوب.

على سبيل المثال:

مدير مدرسة معينة ممكن أن يرشح طالب من طلبة المدرسة لبعثة دراسية ويزكيه بقوله هذا أفضل طالب عندي.

هذا المدح والترشيح جاء بناءً على معرفة المدير المسبقة بتفوق الطالب واجتهاده، وليس بناءً على أساس عرقي.

وطبعًا مع فارق علم الخالق المطلق وعلم البشر المحدود.

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110آل عمران)

قال رسول الله في خطبة الوداع:

أيها الناس، اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في مَوقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها. إن ربا الجاهلية موضوع”.

“أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد”.


من كتاب دين عالمي

فاتن صبري

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *