
شهادة حق:
يُعتبر “الدالاي لاما” بابا البوذيين، إذا جاز التعبير، مثلما أن فرنسيسك هو بابا المسيحيين. كلمته مسموعة ليس فقط في بلاد التيبت، وإنما في كل أرجاء العالم البوذي.
يرى هذا الزعيم الديني أن خصوصية الإسلام التي تميزه عن غيره تكمن في تلك العلاقة القوية جدًا التي تربط بين المسلم وربه. فالتعالي الرباني يرافقه اقتراب الله من المؤمن كما تقول الآية القرآنية الكريمة: «..ونحن أقرب إليه من حبل الوريد».
وبالتالي، فالله قريب وبعيد في الوقت ذاته. والإسلام يطلب من معتنقيه الإيمان بالطبيعة اللانهائية و الأبدية الخالدة لله. وكل تصوير لله ممنوع، لأن ذلك يشجع على عبادة الأوثان التي يحرمها الإسلام تحريمًا قاطعًا. ولذلك لا توجد صور في أماكن العبادة الإسلامية. ومن سمات هذا الدين أن المسلم يسلم نفسه كليًا للإرادة الإلهية ويخضع لها دون نقاش. ومن هنا جاءت كلمة «إسلام».

لكن الشيء المهم في الإسلام الذي لفت انتباه” الدالاي لاما” هو تركيز القرآن الكريم على الرحمة والتسامح. فقد فوجئ بأن كل سورة من سور القرآن تُفتتح بهذه الآية الكريمة: «بسم الله الرحمن الرحيم».
ومع ذلك، فإن الصورة الشائعة عن هذا الدين حاليًا هي أنه دين القسوة والعنف والرعب! فلماذا؟
قبل أن يجيب “الدالاي لاما” عن هذا السؤال، نلاحظ أنه يتوقف مطولاً عند سورة الفاتحة، بل ويوردها مترجمة بشكل كامل. ويبدي أشد الإعجاب بورود كلمتي «الرحمن الرحيم» أكثر من مرة فيها:
“بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)”
يتوقف “الدالاي لاما” عند هذه النقطة أكثر من غيرها لأن مفهوم الشفقة أو الرحمة والرأفة يشكل القيمة الأساسية في الديانة البوذية التي ينتمي إليها. والدين الذي يدعو إلى الشفقة والرحمة بالعباد والكائنات لا يمكن أن يكون إلا دينًا عظيمًا.
من هنا جاء سر إعجابه بالإسلام و دهشته واستغرابه عندما تعرف عليه لأول مرة. فقد كان يعتقد أنه دين القوة والعنف والضرب والقتل، فإذا به يكتشف العكس تمامًا، ويقول بأنه لم يكتشف الإسلام إلا متأخرًا، وقد فوجئ بما اكتشفه وأعجب به أشد الإعجاب.
وقد حصلت أول زيارة له إلى بلد عربي مسلم عام 2005 حيث استقبلوه بحفاوة في الأردن. وقد أعجب بالآذان الذي يتعالى من المساجد كثيرًا.
وفي إحدى المرات قال له شيخ مسلم: «إن من يقتل إنسانًا بريئًا لا يمكن أن يكون مسلمًا حقيقيًا. فقتل النفس البريئة محرم بالكلية في القرآن؛ حيث تقول الآية الكريمة في سورة المائدة:
… مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
” الدالاي لاما” يقول بأن التفسير الحرفي المتشدد للآيات القليلة نسبيًا في القرآن هو الذي يوهم الناس بأن الإسلام هو دين عنف بشكل حصري.
الحقيقة المطلقة

أثناء حوار لي مع بوذي بخصوص كلمة “الدالاي” ، قال:
لقد قال الدالاي:
“يا ناس اسمعوا وعوا. لا توجد حقيقة واحدة في العالم، وإنما عدة حقائق وأديان” .
وأضاف الدالاي:
فجميع الأديان تنهى عن القتل والكذب والسرقة والنميمة” والرذيلة وتدعو إلى مكارم الأخلاق. وبالتالي، فهناك نواة أخلاقية مشتركة عظيمة بين جميع الأديان على اختلاف طقوسها وشعائرها وعقائدها” .
ثم أضاف البوذي:
وأنا أؤيد “الدالاي” وأقول جميع الأديان صحيحة ولا توجد حقيقة مطلقة.
قلت له:
هل أنت متيقن من ذلك تمامًا؟
قال: نعم.
قلت له:
إنك قد أصدرت الآن عبارة مطلقة – وهذا في حد ذاته يؤكد وجود ما هو مطلق.
قال:
إن عدم وجود حقيقة مطلقة هو الحقيقة الوحيدة، يستطيع الإنسان الإيمان بما يحلو له طالما لا يفرض آرائه على الغير. فلا يوجد معنى مطلق بل معنى يُفرض
قلت له:
كيف يمكن لمن لا يؤمن بالحقيقة أو بأي مطلق، وليس لديه مرجعية أن يصدر حكمًا على شئ آخر؟
عبارتك هذه بحد ذاتها عبارة عن إيمان بشأن ما هو صواب وخطأ، وأنتم تحاولون فرضها على الغير، فأنتم تتبنون معيارًا للسلوك وتجبرون الجميع على الالتزام به، وبذلك تنتهكون ذات الشيء الذي تزعمون أنكم تتمسكون به – وهذا موقف فيه تناقض ذاتي.
قال:
التسامح هو المطلق الوحيد، وبناءً عل ذلك فعدم التسامح هو الشر الوحيد. فإصراركم أنتم المسلمون على أن إيمانكم هو الحق المطلق يُعتبر ضد التسامح، بل ويُعتبر الجريمة العظمى.
قلت له:
التسامح هو في احترام إرادة الاختيار التي وهبها الله للجميع، وبانصاف المسلم غير المسلم في التعامل معه، وعدم ظلمه ولا أن يبخسه حقه. ولكن في المقابل التسامح ليس في الاعتراف بالتصرف الخاطئ نفسه والتسليم به على أنه صواب.
إن وجود نظريات وقناعات متنوعة عند البشر لا يعني بعدم وجود حقيقة واحدة صحيحة،
قلت له:
قبل اكتشاف أطول جبال العالم جبال” ايفرست”، ماذا كان أطول جبل في العالم؟
قال:
الجواب يعتمد على كل معلومات وثقافة وبيئة كل شخص.
قلت له:
جوابك ليس فيه منطق، فجهل البشر في معلومة معينة أو قناعتهم بمفهوم معين لا يغير حقيقة وجود معلومة صحيحة أصلية مطلفة لا تتغير. فجبال “ايفرست” اﻷطول في العالم حتى وإن تم اكتشاف هذه المعلومة مؤخرًا وحتى لو جهلها جميع البشر.
فمهما تعددت مفاهيم الناس وتصوراتهم عن وسيلة المواصلات التي أستخدمها أنا يوميًا للتنقل، لا ينفي حقيقة أنني أملك سيارة سوداء اللون، ولو اعتقد العالم بأسره أن سيارتي حمراء، فهذا الاعتقاد لا يجعلها حمراء، فهناك حقيقة واحدة وهي أنها سيارة سوداء.
فلا يصح إلا الصحيح ولو اجتمع العالم بأسره على بطلانه، والخطأ واضح كوضوح الشمس ولو أقر بصحته جميع البشر.
يتبنى البعض هذا الرأي ببساطة لرغبتهم في التخلي عن مسؤولياتهم تجاه أفعالهم. فوجود حقيقة مطلقة يعني بحتمية وجود مبادئ مطلقة للصواب والخطأ، وبالتالي وجود مسؤولية تجاه هذه المبادئ. وهذه المسؤولية هي ما يتهربون منه.
الحقيقة مطلقة شئنا أم أبينا، والدين واحد، وهو:
الاعتراف بخالق الكون الذي ليس له ولد ولا شريك ولا يتجسد في صورة إنسان ولا حيوان، ولا يتحد مع مخلوقاته. والتواصل مع هذا الخالق مباشرة وليس من خلال قديس ولا قسيس، و هناك يوم آخر يحاسب الخالق فيه البشر على أعمالهم.
ونستطيع أن نعيش بسلام ونحصل على دين عالمي بهذه الطريقة فقط.
قال البوذي:
ولماذا الحقيقة المطلقة عندكم؟ لماذا لا تكون عند الهندوسي الذي يقول أن الخالق يتجسد في كريشنا، ولماذا لا تكون عند النصراني الذي يقول أن الخالق يتجسد في المسيح؟
قلت له:
لأن المسلم عنده العامل المشترك بين الجميع وهو الإيمان بالخالق، وهي حقيقة مُسلّم بها عند الجميع حتى لو أنكروا، فالجميع يلجأ إلى الخالق (القوة التي في السماء) في المحن بما فيهم الملحدين والبوذيين.
أما التجسد فهو عبارة عن مفهوم غير منطقي ولا يليق بجلال الخالق، وهو لغز باعتراف المؤمنين به، ودين الله ليس فيه ألغاز.
ولله المثل الأعلى.
فلاعب الألعاب الاكترونية لا يمكن أن يكون جزء من اللعبة داخل هاتفه.
الخالق يتحكم في الكون من خارج الكون، فهو خلق الزمان والمكان لنا نحن البشر.
أغلب الأديان الهندية والصينية قائمة على تعاليم مؤسسيها، ولا تدعي اتباع الوحي المباشر، لا يُعرف للهندوسية مؤسسًا فهو دين تقليدي متوارث، وترجع البوذية إلى “سدارتا غواتاما” ، والجينية إلى “مهافيرا” ، والسيحية إلى “غورو ناناك” ، والكونفوشية إلى “كونفوشياس”، والطائية إلى” لاو تْسي”.
الإسلام دين قائم على الوحي.
“إقُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9:اﻷحقاف)
كل الأديان السابقة تقوم على عبادة أكثر من إله، أما الإسلام فيتميز بعبادة الخالق الواحد اﻷحد.
إن النظرة التوحيدية الخالصة في الإسلام هي الفاصل بينه وبين هذه الأديان، فلا يوجد تثليث ولا ألوهية لنبي، ولا يطلب من الأجناس الأخرى البحث عن إله خاص بهم، ولا يوجد إله خير وإله شر مثل الزرادشتية.

قال السائل:
ما هو تفسير الإسلام لمعاناة البشر؟
قلت له:
كلما قابلت الشر عليك ان تسأل نفسك السؤال الوجودي الاساسي:
لماذا نحن هنا؟
الله خلقنا ليختبرنا ويبتلينا.
وأعطانا حرية الاختيار بين الخير والشر.
وما نقابله في الحياة من شر وأزمات وظلم وبلاء ومرض وفقر هو طريق من اثنتين:
- اما طريق إلى زيادة القرب من الله.
- وإما طريق الى الكفر والالحاد.
وأنت عليك أن تختار.
قال:
هل هناك عدل مطلق؟
قلت له:
نعم في الآخرة وليس في هذه الدنيا.
فهذه الدنيا ليست جنة، فكيف للجنة أن يستحقها المجرم والشرير، وكما نرى في حياتنا فأغلب الناس مجرمين؟
فلن يكافأ الخالق المجرم على اجرامه. فلقد قدر الخالق الجنة لمن يستحقها. فبالتي لن يستحقها الجميع، ولا يحق للبشر الاعتراض على أي شر أو مرض أو مشكلة تصيبه.
فيجب على الإنسان أن يسأل نفسه قبل الاعتراض على أي شر إن كان أراد هذه الدنيا جنة فماذا فعل لكي يستحق الجنة.
الجنة سوف يفوز بها لاحقًا من يستحقها، فالأمر ما هو سوى عملية فرز للمراتب ومنازل الناس.ولم يستثني الخالق من الإبتلاء أحد حتى الأنبياء.
فهذه الدنيا نقطة صغيرة من رحلة حياتنا الطويلة الحقيقية.
قد نرى جزء من العدل في هذه الدنيا لكن العدل المطلق في الآخرة فقط.
قلت له إيضًا:
إن بإمعان النظر في مُعتقدات الشعوب نكتشف أن غالبية الأمم التي لديها موروث ديني و رموز دينية مختلفة لا تزال تُؤمن بوجود خالق للكون والذي تلجأ إليه عند الشدائد. ونجد أن البشر مفطورون على البحث عن العدل المطلق وحتمية وجود يوم حساب للمحاسبة البشر على أعمالهم.
كل مولود يولد على فطرته الصحيحة عابدًا لله بدون وسيط (مسلمًا)، فهو دون تدخل الأهل يعبد الخالق ويلجأ إليه بالسؤال والاستغاثة والطلب مباشرة، حتى سن البلوغ، فيصبح محاسَبًا على أعماله، فحينها إما أن يأخذ المسيح وسيطًا بينه وبين الخالق باللجوء إليه بالطلب والاستغاثة ليصبح نصرانيًا، أو أن يتخذ بوذا وسيطًا ليصبح بوذيًا، أو كريشنا ويصبح هندوسيًا، أو أن يتخذ محمدًا وسيطًا ليحيد عن الإسلام تمامًا، أو أن يبقى على دين الفطرة عابدًا للخالق وحده. فلو توجه الجميع مباشرة للخالق لتوحدت البشرية.
قال الخالق:
“قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ“ (آل عمران: 64).
وأذكر تعليقًا لطيفًا من مسن ألماني عندما شرحت له تعريف دين الإسلام أن قال لي:
هذا دين جديد لم أسمع به من قبل، وهو منطقي وتتوحد به البشرية. أنا أعيش بين مسلمين لكن لم أفهم الإسلام بهذه الصورة أبدًا.
قلت له:
هذا هو الدين العالمي القديم الجديد والأبدي منذ عهد آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو:
عبادة خالق الكون واللجوء إليه مباشرة. وهو الخالق الواحد الأحد الذي خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق المسيح من غير أب، فهو الذي يخلق ولا يلد. وعلى البشر ترك عبادة الأصنام وترك عقيدة الثالوث، وترك اللجوء إلى الوسطاء من قساوسة وقديسين وأولياء، وعدم اللجوء إلى القبور و عدم اللجوء إلى نبي الله محمد أو لأي فرد من آل بيته، أو اللجوء لأي من أنبياء الله بالطلب والاستغاثة.
وعلى جميع البشر أيضًا الإيمان بجميع الأنبياء من آدم إلى محمد، بما فيهم موسى والمسيح عليهم صلوات الله أجمعين.
ولو طبق هذا الدين جميع أهل الأرض لتوحدت البشرية.
والمسلم يحترم حرية اختيار غير المسلم لدينه، ولا يظلمه ولا يسرقه، ولا يبخس حقه، ولكن لا يعترف بدينه الغير الصحيح على أنه دين صحيح، لأن الدين الصحيح دين واحد، والخالق واحد.
وإن قصر بعض المسلمون اليوم في اتباع تعاليم دينهم العظيم، ولم يأخذوا العلم بطريقة صحيحة، فهذا راجع لضعفهم البشري.
وتقصير المسلمين في تبليغ الرسالة الصحيحة للإسلام، أو معاملتهم السيئة لغير المسلمين، أو تخلفهم العلمي بعد أن كانوا رواد العلم المادي والمؤسسين, هذا لا يغير حقيقة أن دين المسلمين هو الصحيح.
فدين الإسلام دين مثالي، لكن المسلمين غير مثاليين.
مواضيع ذات صلة: