قالت لي سيدة لاتينية يوما:
كيف يمكن أن نفسر ظهور الكون من العدم؟ فقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الكون إما أن يكون جزءا من الذات الإلهية، أو من النور الصادر عن الذات الإلهية.
كيف يساعدنا الخالق دون أن يكون جسديا معنا في كل مكان؟
وقالت:
في داخل كل إنسان جزءا من الخالق، وهي الروح التي يشترك بها جميع البشر.
قلت لها:
لقد خلق الخالق الكون من العدم بقوته وقدرته، والكون ليس جزءا من الذات الإلهية.
فالإنسان، على سبيل المثال، يملك ذات، وهي النفس البشرية، ويملك قوة صادرة عن الذات البشرية ومستقلة عنها.
فعندما أرغب أن أنقل قوة من عندي، على سبيل المثال، لأي شخص آخر، فيمكنني في هذه الحالة الضغط على نابض (زنبرك حديدي)، ومن ثم ربط هذا النابض ونقله إلى مكان آخر، أو أن أعطيه لشخص آخر، والذي يقوم بدوره بفك الرباط عن هذا النابض والاستفادة من الطاقة أو القوة التي تم تخزينها في النابض.
فأنا في هذه الحالة لم أقتطع جزءا من ذاتي لإعطاء القوة لشخص آخر.
وكذلك النحاتون أو الصناع الذين يصنعون الأدوات وغيرها من الأجهزة والآلات، فهم استخدموا قوتهم وعقولهم في إيجاد هذه الأشياء دون الحاجة لأن يقتطعوا شيئا من أجسادهم.
وللخالق المثل الأعلى، فبقوة الخالق وقدرته يمكنه أن يخلق من العدم، أو يعطي القوة لأحد من مخلوقاته دون الحاجة لأن يقتطع جزءا من ذاته.
فالخالق مستقل بذاته عن المخلوقات، وهو يمنحهم القوة والإرادة، وكذلك يزرع في نفوسهم من الصفات الربوبية كالحكمة والكرم والحلم والتعقل وغيرها، وهي الروح التي بثها الله في النفس البشرية.
فالأساتذة يقومون بنقل العلم والمعرفة للطلاب دون الحاجة لأن يقتطعوا جزءا من أجسادهم.
قلت لها أيضا:
إن قلت لك أنني سوف أعطيكي من مالي، فهذا لا يعني أن مالي جزءا مني، ولكن هذا يعني أنني أملك هذا المال. أنا أعطيكي مما أملك.
الخالق منفصل عن البشر، والبشر منفصل بعضهم عن بعض، ولكل إنسان روح مستقلة، والكون منفصل عن الخالق وعن البشر
لقد أثبت العلم الحديث أن المادة في أصلها عبارة عن طاقة، ولكنها مخزنة (محبوسة) في نواة الذرة. ولو قدر لهذه الطاقة الانفلات من نواة الذرة لتبددت المادة وزالت، ولكان قد تطلب ذلك قوى هائلة لارجاع هذه الطاقة الى داخل النواة لإعادة بناء المادة.
وحيث أن مادة الكون عبارة عن ذرات، وان كل ذرة تحوي (تحبس) في داخل نواتها على طاقة كبيرة بكثافة عالية ،
وأن هناك قوى هائلة تمسك وتبقي على هذه الطاقة محبوسة داخل أنوية الذرات، وبالتالي المحافظة على ثبات المادة من الفناء والزوال.
وخير مثال على ذلك ما يحدث في واقعنا الحالي- لو قدر لهذه الطاقة بالخروج – ما نشاهده في الانفجار النووي من تحرير لهذه الطاقة والسماح لها بالخروج من نواة الذرة من خلال التصادم. وهذا فقط يحدث عند زوال وتحول جزء ضئيل جدا من المادة.
فلنا أن نتخيل القوى الهائله المطلوبة لارجاع هذه الطاقة النووية مرة أخرى الى داخل نواة الذرة لإعادة بناء الجزء الضئيل جدا من هذه المادة.
وحيث أن وحدات بناء (لبِنات) السماوات والأرض هي الذرات، فإن زوال الذرة يكون بخروج الطاقة من نواتها.
ونجد ذلك بوضوح في سورة فاطر:
” إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ۚ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿٤١﴾ “
الإعجاز هنا في اختيار لفظ “يُمْسِكُ” ولفظ “تَزُولَا”.
فإن الآية تشير إلى أن الخالق يمسك بقدرته هذه القوى ويحافظ على ثبات و تماسك مادة السماوات والأرض من الزوال.
نفهم مما سبق أن المادة في أصلها عبارة عن قوى شديدة التركيز في حيز ضئيل جدا وهي الذرة.
وهذا يقودنا الى أن القوى التي خلق الله بها السموات والأرض والتي يستفيد منها المخلوقات من خلال تحرير هذه القوى في مجالات مختلفة أو تحويلها من شكل لآخر أو نقلها من مكان لأخر (الحول) هي في أصلها يعود لمصدر واحد وهو:
لا حول ولا قوة إلا بالله.
في حوار مع بريطاني يوما قال لي:
الخالق موجود في كل مكان بذاته من خلال حلول جزءا من ذاته في بعض مخلوقاته، وذلك لكي يعلم كل شيء عن مخلوقاته، ولكي يستطيع تفعيل صفتي السمع والبصر عنده، ولتصل إرادته إلى كل مخلوق.
قلت له:
وللخالق المثل الأعلى:
هل صانع محرك السيارة بحاجة لأن يكون جزءا من آلية عمل المحرك لكي يعلم آلية عمل المحرك؟
قلت له أيضا:
جميعنا لديه الهاتف النقال، ومن خلال هذا الجهاز يمكننا الاطلاع على أي معلومة صغيرة أو كبيرة تدور في العالم ولحظيا من خلال نشرات الأخبار. ودون الحاجة لوجودنا بذواتنا في أماكن الأحداث.
كما أن التكنولوجيا أمدتنا بوسائل تحكم عن بعد للتحكم بأجهزة وأليات ومصانع كاملة بل وطائرات عن بعد، فإرادتنا تنفذ على هذه الأشياء البعيدة دون الحاجة لوجودنا بذواتنا في أماكن تواجد هذه الأشياء.
لقد قدم دين الإسلام تصورا بسيطا وعقلانيا لهذه المسألة.
إن الذات الإلهية مستقلة وتعلو على سائر المخلوقات، وفي نفس الوقت علم الخالق محيط بجميع مخلوقاته، كما أن سمعه وبصره لا يحول دونه شيء، وأن إرادته نافذة في كل شيء.
“إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ “. أيه 10 – سورة فاطر.
فالآية الكريمة تشير أن كل عمل أبن آدم الصالح من قول وفعل يصل لرب العالمين ودون الحاجة لنزول رب العالمين بذاته متجسدا في مخلوقاته.
غير ان هذا لا يمنع ولا يحد من قدرة رب العالمين أن يفعل ما يشاء وكيف شاء، فله طلاقة القدرة. ولكننا ننزه تعالى عن فعل ما لا يليق بجلاله.
” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) ” سورة الشورى.
فالخالق وحده الذي يحدد كيفية التواصل مع خلقه وهو وحده الذي يحدد وسيلة الاتصال مع أحد من المخلوقات أو البشر من خلال الوحي، أو ارسال رسول، أو من وراء حجاب، كما تشير الآية أعلاه.
قال السائل:
وكيف يمكن للخالق أن يكون قريبا في حين أنه غير موجود في كل مكان بذاته?
قلت له:
إن قوانين المسافة والزمن تنطبق على المخلوقات فقط، ولكنها لا تنطبق على الخالق الذي هو خالق الزمان والمكان.
- الخالق ليس كمثله شيء، ويجب ألا نحاول مقارنة قصورنا به. إذا افترضنا وجود لعبة تعمل بالبطارية تستطيع التخيل، فستعتقد على الأرجح أنها صُنعت بواسطة بشر يعمل ببطارية. لذلك يقع كثير من الناس في هذا الفخ حيث أنهم لا يستوعبون حقيقة وجود الخالق بذاته بدون موجد لأنهم يرون أن كل شيء من حولهم بحاجة إلى موجد. السببية قانون لنا نحن البشر الذين نعيش في المكان والزمان.
- الخالق الذي خلق المكان والزمان، هو بالضرورة متعالٍ فيما يتعلق بكل منهما، ومن الخطأ من جانبنا أن نعتقد أنه محاط من قِبَل أي منهما. إن الله هو الذي خلق قانون السببية ولا يمكن اعتباره خاضعًا للقانون الذي خلقه، لذلك فان الله لا يتغير. لقد خلق الوقت، لذا فهو لا يخضع للوقت. فهو لا يمر في نفس المراحل الزمنية التي نمر نحن بها، ولا يتعب، ولا يحتاج إلى وضع نفسه في شكل مادي أو أن ينزل إلى الأرض. لذلك لا يمكننا أن نراه في هذه الحياة لأننا محاصرون في الزمان والمكان، في حين أنه خارج كليهما. على سبيل المثال: يمكن للشخص الذي يجلس في غرفة بلا نوافذ أن يرى داخل الغرفة فقط. ولرؤية ما في الخارج يجب عليه مغادرة الغرفة. ومع أن قانون السببية مِن سُنن الله الكونية، إلا إن الله سبحانه وتعالى فعالٌ لما يُريد، وله طلاقة القدرة.
ولله المثل لأعلى.
لو قلنا، على سبيل المثال، أن هناك مسافة 10 أمتار تفصل بين شخص واقف ونملة تدب على الأرض، فإن هذا الشخص بإمكانه أن يصل إلى النملة في بضع ثواني، غير أن النملة تحتاج لأكثر من ساعة وهي تمشي في خط مستقيم لكي تصل لهذا الشخص.
المسافة واحدة غير أن حجم الشخص وإمكانيته تفوق حجم النملة وقدرتها على الحركة. فنحن نقول أن الشخص قريب جدا من النملة ويمكن أن يصل إليها في بضع ثواني. غير أنه من منظور النملة فإنها بعيدة جدا عن الشخص وتحتاج لأكثر من ساعة لتصل إليه.
وبنفس المقياس لو افترضنا أن انسان يريد أن يقطع المسافة من الأرض إلى الشمس مثلا، فإن بحجمه الضئيل سيحتاج إلى سنوات طويلة ليصل إلي الشمس. غير أنه لو قدر للشمس أن تسير في اتجاه الأرض لوصلت إلي الأرض في ثواني معدودة. والسبب بسيط هنا، وهو أن المسافة المطلوب قطعها بالنسبة لحجم الشمس لا يكاد يذكر.
المبدأ الذي نريد أن نثبته هنا أن الأشياء الكبيرة المتناهية في الكبر يمكن أن تصل للشيء الضئيل الصغير جدا في الحجم في زمن يكاد لا يذكر. في حين أن هذا الشيء الصغير يحتاج لزمن طويل جدا ليصل للجسم ذات الحجم الكبير. رغم أن المسافة نفسها.
ولله المثل لأعلى.
فالخالق قريب جدا من مخلوقاته. ولا يعني ذلك أنه جزء من مخلوقاته. وأن البعد الزماني والمكاني هو من منظور المخلوق فقط.
يجب أن نفهم أن الخالق:
- هو خالق الكون وما يحويه، وهو مستقل ومنفصل عن الكون الذي خلقه.
- الخالق لا يأتي إلى الأرض بأي شكل بشري أو حيواني. فهو لا يتجسد في صورة أحد من مخلوقاته، وليس له شريك أو ولد. لقد خلق المسيح بلا أب، كما خلق آدم بلا أب أو أم. إنه يخلق لكنه لا يلد.
- هو خالق رام وكريشنا وبوذا. وهو خالق سيدنا محمد والمسيح وموسى عليهم السلام أجمعين.
- على البشر أن يلجأوا إلى الخالق بالدعاء إليه والتواصل معه مباشرة، لا عن طريق أي كاهن أو قديس أو صنم، ولا عن طريق النبي محمد أو أي من آل بيته.
- إنه من حق الخالق أن يُعبد وحده، ومن حق الإنسان أن تكون له صلة مباشرة به.