اعتدنا على سماع تعليمات طاقم الطائرة عن أهمية الاهتمام بأنفسنا أولا ثم بالغير عند التعرض لخطر ما أثناء الرحلة.
وما أشبه هذه التعليمات بما فعله قساوسة العالم عندما طلبوا من أتباعهم اللجوء إلى الخالق مباشرة وتفادي الاقتراب منهم خوفًا من العدوى بعد جائحة الكورونا.
وتهافت من يلجأ إلى الأصنام بالطلب والعبادة إلى تعقيم آلهتهم وعدم الاقتراب منها خشية العدوى.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ” سورة فاطر : ١٤
وكأن البشر هم الفيروس نتيجة أفعالهم وكورونا هو العلاج
فضاقت الدنيا على البشر.
… حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118التوبة )
إن فيروس الكورونا هو من أقوى الرسائل الربانية التي تقول للبشر:
في لحظة معينة عاجلاً أم آجلاً سوف يلجأ الجميع إلى مصدر وجوده راغبًا أم مجبرًا.
فمهما اعتمدنا على بعضنا البعض، واجتهدنا لإسعاد البشرية، فسيأتي يوم نعجز نحن والبشرية عن إنقاذ أنفسنا، ونشعر بحاجتنا إلى مصدر أكبر وأقدر من الجميع، مستقل بذاته، ولا يعتمد على غيره.
خالق بوذا ورام وكريشنا، خالق الرهبان والقديسين والقسيسين، خالق أنبياء الله محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام. فلا يجوز الطلب من المخلوق.
فلا تثليث ولا ألوهية ولا لجوء لنبي، ولا يُطلب من الأعراق المختلفة البحث عن إله خاص بهم، ولا يوجد إله خير وإله شر .
في صغري كان أبي بالنسبة لي الرجل الخارق (سوبر مان)، الذي لا يعجزه شئ، يلبي طلباتي مهما عظمت في نظري. لا أراه يتعب ولا يكل في تحقيق أمنياتي. لم أحب أن أراه متعبًا أو مريضًا قط، فهو بالنسبة لي البطل الذي لا يتعب. وكثيرًا ما كنا نسمع عبارة “المرأة والطفل الصغير يظنان الرجل على كل شئ قدير”.
رغبتبا هذه كبشر في وجود مصدر للقدرة المطلقة والتي جسدها البشر بشخصية سوبر مان، إنما تنبع من فطرة زُرعت في قلوبنا على حقيقة وجود قوة عليا مختلفة عن البشر، منزهة عن الصفات البشرية، و قادرة على كل شئ.
فكما كان موت أبي بالنسبة لي حقيقة أكدت لي أنه كبشر يتعب ويحتاج ويموت، أيضًا أكدت لي وجود قوة عظيمة لا تعتمد على غيرها، مستقلة بذاتها ولا تتعب ولا تحتاج ولا تموت، وهي الخالق جل جلاله.
لهذا فأنا دائمًا ما أركز في محاضراتي للمسلمين و حواراتي مع غير المسلمين على أهمية المفهوم الحقيقي للخالق، والذي تشوه في جميع ديانات الأرض ما عدا في الإسلام، الديانات التي جعلت الخالق كالبشر له ولد، يتعب ولا يعرف، يتحسر ويندم، وانتهت بوحدة هذا الخالق مع المخلوق، وجعل الخالق يظهر في حشرة أو شجرة أو حيوان أو إنسان. الأفظع من ذلك أن جعلوا الخالق الخطية نفسها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
سألني شاب أمريكي يومًا عن كيفية الموازنة بين حاجتنا الملحة للتواصل مع مصدر وجودنا للفوز بالنعيم اﻷبدي وبين متع الحباة؟
قلت له ما سمعته مرة وأعجبني:
أنت عندما يكون لديك اختبار مهم مصيري في اليوم التالي، هل تقضي الليلة بالتفكير بوجبة اﻹفطار الصباحية أم بالاختبار؟
قال:
أقضي ليلتي أفكر في الاختبار.
قلت له:
متع الحياة هي وجبة اﻹفطار، أما التعرف على الهدف من وجودك ومصدر وجودك ومآلك بعد الموت والتواصل مع مصدر وجودك هو الاختبار. فلا تعارض بينهما.
فمهما تنوعت وجبة اﻹفطار وغلى ثمنها وكانت في أرفه المطاعم فلن تشغل فكر من يريد التفوق في الاختبار.
قال الشاب:
أحببت جدًا فكرة التواصل مع الخالق مباشرة وليس من خلال قسيس؟
قلت له:
اﻷمر في الواقع أكبر من فكرة إعحاب أو عدم إعجاب، تواصلك مع الخالق مباشرة حق من حقوقك.
فحق الخالق على مخلوقاته عبادته وحده، وحق المخلوقات التواصل معه مباشرة.
لطالما لفت نظري تعلق شباب هذه اﻷيام في وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصًا قبل انتشار استحدام الكاميرات بهذه الصورة الكبيرة، وقلت في نفسي:
قد يتكلم الشاب مع صديقه لسنوات دون أن يراه، وقد يشعر براحة وانسجام بالتحدث معه في كل مرة، وحين يلقاه مباشرة وجهًا لوجه تكون السعادة الغامرة.
فما أن أُسأل عن سبب تعلق المسلم الشديد بالصلاة ولقائه المتكرر مع خالقه يوميًا في أية لحظة ومن خلال الصلوات الخمس أذكر له هذا المثال.
فعندما يتواصل المسلم مع خالق الكون ليتوب من ذنب أو لشكر نعمة أو لطلب حاجة، ومن خلال اعترافه أن ما أصابه من سوء كان من نفسه وما حصل عليه من خير كان من الخالق، يكون قد حقق هدف وجوده، وملئت نفسه السكينة وأصبحت حياته تتنقل من سعادة إلى سعادة، وتكون لحظة لقائه مع خالقه بعد الموت أسعد لحظات حياته.
قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا(الكهف – 110)
بين الوجود ومصدر الوجود
سألني شاب عشريني من دولة تشيلي عن مفهوم وحدة الوجود، وتعجبت عندما أعطاني المصطلح باللغة العربية مع أن الحوار كان باللغة الإسبانية، وسألته عن ذلك.
حيث قال: لقد كلمني عن هذا المفهوم أحد أقاربي، فأنا من أصول عربية نصرانية.
تعجبت كثيرًا وقلت في نفسي:
ما أصعب هذه الأوقات التي يعيشها شباب هذا اليوم، والتي تشوهت فيه المفاهيم وعجز الشباب أن يفرقوا بين حقيقة وجودهم وأصل هذا الوجود.
قلت للشاب:
إذا كان لديك سلك كهربائي مصمم بشكل دائري الشكل، فإنه باستطاعتك بطريقة ما أن تجعله مربع الشكل. لكن من المستحيل أن تطلق عليه لفظ دائري ومربع في نفس الوقت.
فإما أن يبقى دائري، أو أن يتحول إلى مربع.
الغريق الذي ينتظر يد العون لإنقاذه من الموت والهلاك لن يرضيه أن يتحد مع مياه البحر كوسيلة لإنقاذه. هو يبحث عن كائن مستقل عنه يأخذ بيده ويخرجه من الجحيم الذي يعيشه بمواجهة خطر الموت.
كيف لمن يلتقط صورة من هاتفه الشخصي أن يصبح هو وهاتفه والصورة شيئًا واحدًا.
كيف لمن يلعب الألعاب الإلكترونية أن يكون جزء من اللعبة؟
نحن بحاجة إلى قوة أعظم من الجميع تتكفل بخلاصنا وأمننا بعد الموت، لا لأن يتحد معنا ونصبح كلانا بلا ملامح.
الخالق غير محدود، أزلي، هو قبل كل شئ، وبعد كل شئ، ولا يسعه أحد من مخلوقاته.
حاجة ملحة:
- يقول المشكك: أنا أؤمن بوجود بقوة وطاقة في السماء أوجدت هذا الكون.
- يلجأ الملحد عند شعوره بالخوف الشديد إلى القوة التي في السماء
- في تقاليد البُوذي اللجوء إلى القوة التي في السماء عند سماعه لصوت الرعد المخيف.
- في عقيدة الهندوس أن القوة التي في السماء هي الإله الواحد الأحد الذي يلجأون إليه عند انقطاع الأسباب الدنيوية.
ما أعظم سر هذه القوة التي في السماء والتي تمثل مصدر الوجود، والتي يلجأ إليها الجميع في الضراء، بينما يلجأ إليها المسلم في السراء والضراء، ولو لجأ إليها الجميع كما يفعل المسلم في السراء والضراء لتوحدت البشرية.
الخالق واحد أحد ليس له صورة معروفة لدى البشر وليس له ولد، لا يأتي إلى الأرض في صورة إنسان أو حيوان أو صنم أو حجر، ويجب اللجوء إليه مباشرة بالطلب وليس من خلال قسيس ولا قديس ولا حتى من خلال نبي الله محمد.