جوهر الأمر:
دائمًا ما أكرر كلمات رائعة للدكتور عبد الوهاب المسيري والتي يقول فيها:
يعيش العالم اليوم أزمة نسيان جوهر الأمر، فيقف العالم بلا ركيزة أساسية جوهرية وهي المرجعية.
ويقول:
لقد فُقدت الذاكرة الإنسانية، والذاكرة الإنسانية هي ما تجعل الإنسان إنسان. من خلال الذاكرة نتعلم ويصبح لنا تاريخ، من خلال الذاكرة نعرف الخير والشر، و نعرف الحق والباطل، وبالتالي نؤسس حياتنا على هذا اﻷساس ونختار بين الخير والشر. ولو نسينا جوهر الحياة، لتعلقت حياتنا بين السماء و اﻷرض.
لم أجد أدق من قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب كشرح مبسط لمقولة الدكتور المسيري.
إن ما قدمه أبو طالب دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقارن بما يقدمه أيًّا كان نصرة لقضايا المسلمين، ومع ذلك نهى الله عز وجل رسوله أن يستغفر لعمه.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (التوبة:113)
لم يغضب الرسول ولم يثر لم ويقل: هذا عمي، دافع عني وعن قضيتي.
لماذا؟
لأن جوهر مهمة الرسول كبشر في هذه الحياة هو أن يكون حق الخالق على رأس قائمة أولوياته.
وقضية سيدنا محمد وهي نشر الدين هي أساس كل قضية دينية اليوم، وأساس كل مقدس عند المسلم اليوم، ومع ذلك لم تكن أهم من القضية الأساسية وهي حق الخالق.
ولو تبنى كل مسلم اليوم القضية الأساسية والجوهر الأساسي والهدف الأساسي لوجوده في الحياة وهو الدفاع عن حق الخالق، لحصل المسلمون على النصر والتمكين في مقدساتهم.
فلا يجب أن أغضب كمسلم إلا لانتهاك حق الخالق، ولا أحزن إلا على المساس بحق الخالق.
فالخالق لا يسامح في انتهاك حقه.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (النساء:48)
فلا يجب أن يكون حق الخالق أهون الحقوق على المسلم.
فأنا إذا أردت أن أعرف أولويات شخص ما أقابله في حياتي، فعلي فقط أن أنظر إلى ما يجعل هذا الشخص يتعصب ويغضب.
هل حق الخالق أولوية في حياته؟
وكثيرًا ما نجد من الناس اليوم عندما يساعدهم إنسان ويخلص لهم المحبة والدعم، فيرددون عبارات عند التعامل معه أو الاصطدام بموضوع يخص أحبائهم مثل:
أنت عزيز علي وساعدتني كثيرًا ولكن:
- والدي خط أحمر.
- زوجي لا أتهاون في حقه.
- أبنائي هم نقطة ضعفي.
- عائلتي حياتي.
ونجدهم في المقابل يتهاونون في حق خالقهم.
لكن ما هو حق الخالق:
يقول تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة:62)
فحق الخالق بناءً على الآية الكريمة هو الإيمان به.
لكن من هو الله المذكور بالآية؟
وما هي كيفية الإيمان به؟
- هو الخالق الواحد الأحد الذي ليس له شريك في ملكه ولا ولد.
( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) (مريم)
- أن لا تصنع له صورة ولا تمثال.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. (الأنعام:103)..
- أن لا تنسب له صفات حيوانية أو بشرية.
- أن تعبده مباشرة وليس من خلال قديس ولا قسيس ولا ثالوث.
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة:73)
- أن تؤمن برسله جميعهم ولا تفرق بين أحد من رسله.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة:136)
- الإيمان بيوم القيامة الذي سيحاسب فيه الخالق البشر على أعمالهم.
وهذه هي شروط قبول النجاة والأمان بعد الموت.
هذه الشروط كانت على مدى العقود والأزمان.
فمنذ عهد آدم أبو البشر، كان الخالق يختار الأتقى في قومه كرسول لهم كلما حُرِّفت رسالة النبي السابق وحادوا عن الطريق المستقيم، واختلفوا فيما بينهم بعبادة غير خالقهم، ولتقديم أجوبة شافية لهم عن الأسئلة الوجودية التي تدور في خلدهم (مصدر وجودهم والهدف من وجودهم ومآلهم بعد الموت).
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ … (النحل: 36).
الطاغوت هنا هو الوثنية، أي عبادة غير الخالق بالتوجه بالطلب والاستغاثة بالمسيح أو بأمه الصديقة مريم، أو لأي صنم أو حجر، أو قديس أو قسيس أو حتى رسول الله محمد أو أي فرد من آل بيته.
ولقد خلق الخالق المسيح بلا أب، كما خلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد سبحانه وتعالى.
فأتباع المسيح كان عليهم عبادة الخالق وليس عبادة المسيح نفسه ولا أن يعتقدوا أنه ابن الله.
وهذا ما قصدته الآية الكريمة السابقة.
إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة:62)
موازين الآخرة:
لنتخيل أن طلاب مدرسة في السنة النهائية مجتمعين أجمعوا على حب شخص ساعد الجميع وكان لا يترك فرصة للدفاع عن قضاياهم وحل مشاكلهم وتأمين الطعام والشراب اليومي لهم على نفقته الخاصة، ولكن لم يكن أصلاً مسجل في المدرسة ولم يستعد ليوم الاختبار وأهمل معرفة أساسيات شروط اجتياز الاختبار.
هل للطلاب حق حينها بالمطالبة بأن يجتاز صديقهم الاختبار ويأخذ الشهادة فقط لأنه دافع عن قضاياهم؟
ماذا عليّ أن أفعل مع غير المسلم؟
كيف أكون متسامح معه؟
التسامح هو في احترام إرادة الاختيار التي وهبها الله للجميع، وبانصاف المسلم غير المسلم في التعامل معه، وعدم ظلمه ولا أن يبخسه حقه. ولكن في المقابل التسامح ليس في الاعتراف بالدين الخاطئ نفسه والتسليم به على أنه صواب.
كيف أعرف أن غير المسلم مات على دين خاطئ؟
ليس مهمتي أن أعرف غير ما صرح به هو نفسه قبل موته.
فمن عمل واجتهد في الدنيا فمن عظيم عدل الخالق أن يعجل ثوابه في الدنيا، ويخلد ذكره في ذاكرة البشر الذي عمل من أجلهم في حياته قبل موته، فيكون بذلك قد أخذه أجره من البشر حبًا وتقديرًا.
لكن الآخرة وثوابها فلها قوانين أخرى ومعايير مختلفة.
ومعرفة كيف سوف يحاسبه الخالق وأين مصيره فهذا مرجعه إلى الخالق.
ولا يجب الخلط بين الأمر الأخلاقي والعواطف الجياشة وتتمثل بتعزية ومواساة غير المسلم، و البر و الإحسان إليه التي أمر بها الإسلام، وبين أمر عقدي يخص ثوابت الدين والذي ليس له شأن بالأخلاق، وهو طلب المغفرة من الله لغير المسلم الذي هو منهي عنه في الإسلام.
فالخالق هو من يتولى أمر غير المسلم بعد الموت ويطلب الخالق من المسلم أن لا يتدخل فيما لا يعنيه.
فلن يكون البشر أرحم من خالقهم بهم، والذي سوف يقرر أن يعاملهم بعد الموت برحمته أم بعدله.
لكن ما هو معيار حكمي على الأمور؟ وما هي المرجعية والمركزية التي أصدر أحكامي بناءً عليها؟
يجب أن يكون معيار المسلم و مركزية أخذ القرار وإطلاق الأحكام هو منهج خالقه.
والمنهج وهو الدين الذي اختاره الخالق عبارة عن:
- طريقة تنظيم علاقة الإنسان بخالقه وشرح كيفية التواصل معه.
- طريقة تنظيم علاقة الإنسان بمن حوله من البشر وتحديد الحقوق والواجبات، وعلاقته بالكائنات الأخرى وكيفية التعامل معها.
يجب أن أعبد الخالق و أتواصل معه بالطريقة التي اختارها هو وليس بطريقتي وهوى نفسي.
فمن يريد أن يتواصل معي عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني مثلاً، فإنه لا يستطيع أن يستخدم أي رقم هاتف من اختراعه هو أو أي إيميل.
فهو في هذه الحالة سوف يكون قد أضاع وقته هباءً منثورا.
أنا من يجب عليّ أن أزوده برقمي الشخصي أو بريدي الإلكتروني.
يقول الخالق:
وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ( الفرقان:23)
فإنني إن لم أتبع منهج الخالق الصحيح فسينتهي بي المطاف باتباع مزاجي وهوى نفسي.
وبالتالي إلى الضياع والهلاك.
ولكن كيف أعرف ما هو المنهج الصحيح؟
أي كتاب مقدس على وجه الأرض هو الصحيح اليوم؟
المنهج الصحيح هو:
- ما لا ينسب إلى الخالق صفات حيوانية أو بشرية
- ما يكرم رسل الخالق ولا ينسب إليهم صفات المجرمين.
- ما يتوافق مع الفطرة البشرية.
- ما لا يتعارض مع الحقائق الكونية.
- المحفوظ من التغيير ولا تتواجد منه نسخ مختلفة.
- الذي لا يزال باللغة التي نزل به من الخالق على نبيه.
- ما يعترف بجميع رسل الخالق من آدم إلى محمد بما فيهم المسيح وموسى عليهم الصلاة السلام أجمعين.
وهذه الشروط جميعها توفرت في القرآن الكريم الذي هو خاتم الكتب السابقة والتي تحرفت من قبل أتباعها.
التعايش السلمي:
سألني نصراني عربي يومًا:
أعطني دليلاً على أن المسلم يجب أن يُعامل غير المسلمين بالحسنى؟
قلت له:
ألم يرحب أقباط مصر بالمسلمين واعتبروهم محررين لهم من اضطهاد الرومان؟
بل وساعدوهم على دخول البلاد للتخلص من سيطرة الرومان.
أليس الصحابي عمرو بن العاص هو من أعاد إلى بطريرك القبط في بلاد مصر كنائسه ورفع الظلم عنه بإعادته إلى مزاولة عمله، عندما كان مضطهدًا من الرومان وهاربًا من بطشهم؟
ألم يرفض عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة بعد سيطرته الكاملة على مدينة القدس حتى لا يظن المسلمون أنها رخصة بتحويل الكنيسة إلى مسجد؟
أليس مفتاح كنيسة القيامة في عهدة عائلة مسلمة حتى يومنا هذا؟
يقول فرد من أفراد هذه الأسرة:
“تشرفت عائلتى بهذه المهمة المقدسة، منذ عام ١١٨٧، حيث قام القائد الفاتح صلاح الدين، بعد تحرير القدس من أيدى الصليبيين باتباع خطى الخليفة عمر بن الخطاب الذي خط بيده العهدة العمرية والتى تظهر سماحة الدين الإسلامى الذي أعطى النصارى عهدًا يضمن السماح لهم بممارسة شعائرهم الدينية في بيت المقدس”.
وممارسة شعائر غير المسلمين وفقًا للعهدة العمرية كانت بشروط من بينها:
عدم ايواء الجواسيس في كنائسهم أو منازلهم، وعدم غش المسلمين، وأن لا يضربوا بنواقيسهم إلا ضربًا خفيفًا في جوف كنائسهم، ولا يظهروا عليها الصليب، ولا يرفعوا أصواتهم في الصلاة ولا القراءة في كنائسهم. وغيرها من الشروط.
نفهم مما سبق أن معاملة الصحابة لغير المسلم كانت من أرقى المعاملات على مستوى القوانين الدولية، ولكن لم يعترفوا بدين غير المسلم على أنه دين صحيح.
يقول الدكتور المسيري:
دائمًا أنصح أصدقائي وتلاميذي أن يبتعدوا عن المعارك الصغيرة التي تُفرَض عليهم، والتي يمكن أن تستنزف الإنسان، بل وتقضي عليه.
ويقول:
اللَه (الخالق) هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نسِي البشر اللَه – الذي هو ركيزة الكون – فكل شيء ينتهي.
مواضيع ذات صلة:
من كتاب دين عالمي
فاتن صبري
د عبدالفتاح بدر
قضية الصحفية شيرين أكبر من أن نطلب لك الرحمة ونقول عنها شهيدة ، فالرحمة تجوز على الكل والشهداء ليسوا من المسلمين فقط، والاستعلاء بالاسلام على بنى وطننا من غير المسلمين جهل بأصول الدين، والحوار فى اطار المقال يصرفنا عن صراعنا الأبدى مع اليهود الذين اغتصبوا أرض المسلمين ويعتدون يوميا على المسجد الأقصى الذى كانت شيرين تنقل عدوانها آلى العالم كله
Admin
ما هو المرجع في الحكم على الاشياء؟ كل منا يجب أن يكون لديه مرجع يستند إليه في حكمه على الأمور.
إما منهج رباني يستند إليه أو عواطفه أو آرائه الشخصية التي تعتمد على أهوائه.
في مقالي ذكرت المرجع الذي أعود إليه و هو القرآن
الكريم وقصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه.
أنتم على ماذا تستندون؟
استعلاء المسلم بدينه لأنه لم ينسب إلى الخالق ما لا يليق بجلاله من اتخاذ ولد او ما شابه، ويتواصل معه مباشرة، وبهذا فهو يستحق هذه الدرجة من الفخر لأنه في تواصل دائما مع ملك الملوك.
ومع ذلك يجب أن يحترم المسلم غير المسلم ولا يظلمه ولا يبخسه حقه ويتعايش معه بسلام. أما قوانين الآخرة فمختلفة عن قوانين الدنيا.
لا يجب الخلط بين أمور أخلاقية وهي التعاطف والتأييد للقضية وبين ثوابت دينية تخص حق الخالق.
أشكركم على التعليق وأرجو أن تفيدونا بالرد على السؤال.