
مدينة القدس تشير إلى وجود الخالق:
سألني أحدهم يومًا عن أهمية مدينة القدس لدى المسلمين، وما أن بدأت إجابتي قائلةً بأن الخالق اختار هذه المدينة كمكان لعبادته وحده، حتى فاجأني قائلاً: هذا على فرض أن الخالق موجود لنؤمن به. وحتى لو كان موجودًا لماذا علينا أن نعبده؟ وإن توجب علينا عبادته فلماذا من خلال دين الإسلام وليس من خلال دين آخر.
قلت له: لابد للإنسان من الايمان، سواءً كان الإيمان بالإله الحق أو بأي إله باطل. لكن لابد له من الإيمان بشيء يتبعه ويقدسه ويرجع له في نهج حياته وقد يموت لأجله (قد يكون الشيء الذي يقدسه هو نظرية علمية، أو رئيسه في العمل، أو حتى هوى في نفسه، الخ..)، وهذا ما نسميه العبادة. فعبادة الإله الحق تحرر الإنسان من “العبودية” للآخرين والمجتمع.
الإله الحق هو الخالق، وعبادة غير الإله الحق تتضمن الادعاء بأنهم آلهة، والإله لا بد أن يكون خالقًا، والدليل على أنه الخالق يكون إما بمشاهدة ما خلقه في الكون، وإما بوحي من الإله الذي ثبت أنه خالق.
الإنسان في الشدة بما فيهم الملحد والمشكك يلجأ بالدعاء إلى حقيقة واحدة ويرجو إلهًا واحدًا لا أكثر.
يجب أن يكون وجود الخالق قد سبق وجود الزمان، المكان، والطاقة، واستنادًا على ذلك، لا يمكن للطبيعة أن تكون هي المسبب بخلق الكون، لأن الطبيعة نفسها تتكون من زمان، مكان وطاقة. فالانفجار الكبير مثلاً ان افترضنا صحة النظرية هو حدثًا أساسيًا ولكن ليس سببًا أساسيًا.
ولا يمكن الاستغناء بالعلم عن الإيمان بالخالق لأن العلم اكتشف قوانين الطبيعة لكن لم يوجدها، الخالق هو الذي أوجدها.
إن الإيمان بالخالق يقوم على حقيقة أن الأشياء لا تظهر بدون سبب. ولا يمكن للصدفة أن تكون موجدة للكون لأن الصدفة ليست سببًا رئيسيًا، وإنما هي نتيجة ثانوية تعتمد على توافر عوامل أخرى (وجود الزمان، المكان، المادة والطاقة) لكي يتكون من هذه العوامل شيء بالصدفة. فقد يُكسر الشيء بالصدفة لكن لا يتم تصليحه أو صناعته بالصدفة.
فالله الخالق والمسبب الأساسي للكون له صفات جلال وجمال، هو الرحمن الرحيم، المعطي الكريم والغفور، لقد خلقنا لعبادته، وخلقنا ليرحمنا ويسعدنا ويعطينا، إن أخلصنا له العبادة وأطعناه وامتثلنا أمره، وكل الصفات البشرية الجميلة مشتقة من صفاته.
قال الله تعالى:
“وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ”[1].
عندما يجد الإنسان نفسه غنيًا جدًا وكريمًا للغاية، فإنه سوف يدعو الأصدقاء والأحباب إلى الطعام والشراب.
صفاتنا هذه ما هي إلا جزء بسيط مما عند الله. إنه خلقنا ومنحنا القدرة على الاختيار، فإما أن نختار طريق الطاعة والعبادة، وإما أن ننكر وجوده ونختار طريق التمرد والمعصية.
رحمة الخالق تتجلى في قبول توبة آدم أبو البشر:
قد أخبرنا الله على لسان رسوله أن كل بني آدم خطاء، وأن الدرس الذي علمه الله للبشرية عند قبوله توبة آدم أبو البشر بسبب أكله من الشجرة المحرَّمة، هو بمثابة أول مغفرة لرب العالمين للبشرية، فلا تزر وازرة وزر أخرى،. وأن الإنسان يُولد نقيا بلا خطيئة، ويكون مسؤولاً عن أعماله ابتداءً من سن البلوغ.
فكلما عصى الإنسان ربه يجب أن يتوجه إليه مباشرة بالتوبة فيغفر الله له ويتجلى اسمه الغفور، وعندما يحتاج الإنسان أمرًا يتوجه إلى الله مباشرة بالطلب فيتجلى اسم الله المعطي. ورب العالمين رحيم بخلقه أكثر من الأم بأولادها، فهو يغفر لهم كلما رجعوا وتابوا إليه.
إن الإنسان لن يُحاسَب عن ذنب لم يقترفه، كما أنه لن ينال النجاة إلا بإيمانه وعمله الصالح، منح الله الحياة للإنسان وأعطاه الإرادة للامتحان والابتلاء، وهو مسؤول فقط عن تصرفاته.
قال الله تعالى:
“…وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور” (الزمر:7).
وقد ورد في العهد القديم ما يلي:
“لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ” (سفر التثنية: 16:24).
إنه من حق الخالق أن يُعبَد وحده ومن حق الإنسان أن يكون له صلة مباشرة بربّه. فمن توجه إلى غير الله (قسيس، قديس أو أي وسيط)، كان عليه أن يتوب قبل الموت وإلا فلن يقبل الله منه هذا العمل.
ففي الإسلام قد غفر الله لآدم وعلَّمنا كيف نعود إليه متى أخطأنا على مر الحياة.
قال الله تعالى:
“فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”[2].
فيكون الإسلام بذلك قد كرَّم المرأة عندما أعفاها من وزر خطيئة آدم، وحرص على رفع شأنها.

تتجلى رحمة الخالق في إرسال الرسل:
منذ ظهور الإنسان على الأرض – منذ عهد آدم – أَرسل رب العالمين الأنبياء والرسل، خلق نبيه آدم من غير أب ولا أم وخلق نبيه المسيح من غير أب، ليظهر طلاقة قدرته في الخلق، وكان يختار أَكثر الرجال ورعًا وتقوى في قومه ليكون نبيًا وحكمًا بينهم. فلتقرير رسالة التوحيد، بعث الله جميع الرسل إلى كل الأمم مرشدين أقوامهم إلى حقائق الكون؛ ولعبادة الخالق وحده كما كان يعبد الرسول ربه، وليس بعبادة الرسول أو أي شيء آخر.
وكل رسالة سماوية تتفق مع سابقتها في أصل التوحيد وتختلف في الشريعة حسب حاجة البشر وتأتي الرسالة الجديدة كلما انحرف البشر عن الطريق وعبدوا غير الله.
“ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ…“[3].
فاتباع دين الإسلام ليس فقط بالإيمان بإله واحد، بل وعبادته وحده بدون وسيط. إن الإيمان بإله واحد (توحيد الربوبية) موجود في ديانات كثيرة، وكانت موجودة في عقيدة كفار قريش أيضًا؛ فعندما سُئلوا عن سبب عبادتهم للأصنام قالوا: لتقربنا إلى الله زلفى، فهم لا ينكرون وجود الله.
“أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ”[4].
إن الاختلافات بين الديانات تتمثل في الوسيلة المتبعة في التواصل مع الخالق مباشرة أو من خلال اتخاذ وسطاء (قديسين، كهنة، أصنام أو أنبياء).
فلو ان الديانات تخلت عن عبادة الوسطاء وتوجوا مباشرة للخالق في السراء والضراء كما يتوجهوا إليه وحده دون أن يشعروا عند المصائب لتوحدت البشرية ولاستقامت قلوبهم واهتدت للحق.
“قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”[5] .
كما أن العديد من الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله للأمم المختلفة، ذُكرت أَسمائهم في القرآن الكريم (مثل المسيح، موسى، إبراهيم، نوح، داود، سليمان، إسماعيل، إسحق ويوسف، إلخ….)، هناك آخرون لم يُذكروا. فإن احتمالية كون بَعض الرموز الدينية في الهندوسية والبوذية (مثل راما، كريشنا، وغواتاما بوذا) أنبياء أرسلهم الله هي فكرة غير مستبعدة، غير أن هذه الشّعوب استخدمت هذه الرموز للشِّرك بالله.
“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ” [6].

تتجلى رحمة الخالق في اختيار الأماكن المقدسة:
كما أن الله اختار الأنبياء والرسل لإرشاد شعوبهم للدين الحق، فقد اختار أيضًا لهذه الشعوب أماكن مقدسة ليمارسوا شعائرهم فيها ولتعظيم هذه الأماكن وتوقيرها. فقد أمر الله آدم عليه السلام ببناء البيت الحرام في مكة، وبُني المسجد الأقصى في مدينة القدس بعده بأربعين عامًا.
وقد جُعلت هذه الأماكن المقدسة لعبادة الله وحده وتنزيهه عن أي نقص، (مثل النسيان، أو الجهل، الخوف، أو التعب وغيرها من الصفات البشرية) سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء:105)
كما جُعلت هذه الأماكن خاصة بالمؤمنين الذين يؤمنون بجميع أنبياء الله بما فيهم المسيح ومحمد عليهم الصلاة والسلام، الذين هم صفوة خلقه وحملة رسالاته وقد أكرمهم وأجلهم وعصمهم من الكفر، ونزههم عن مقارفة الكبائر (الزنا، القتل، السرقة، الخ).
ولقد تكفل الله بحماية رسله كما حمى وأنقذ رسوله عيسى المسيح من القتل والصلب، وحمى رسوله إبراهيم من النار، وموسى من فرعون وجنوده.
“إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ”[7].
مدينة القدس تشهد بلا إله إلا الله:
قام النبي إبراهيم وأبنائه بتبليغ رسالة التوحيد في بيت المقدس ودعاهم إلى مكارم الأخلاق، فمن كان يعبد الخالق وحده من أتباع إبراهيم كان على دين الإسلام وهو الدين الحق، لكن من اتخذ قسيسًا أو قديسًا بينه وبين الخالق كانت هذه الطقوس بالضرورة من صنع البشر.
فأتباع النبي ابراهيم كان دائمًا عليهم عبادة الله وحده، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن إبراهيم رسول الله. وبعث الله النبي موسى لتصديق رسالة إبراهيم، وكان متوجهًا إلى بيت المقدس، أتباع النبي إبراهيم كان عليهم قبول النبي الجديد، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن موسى وإبراهيم رسل الله. لكن من اتخذ قسيسًا أو قديسًا بينه وبين الخالق أو عبد صنمًا أو حجرًا كانت هذه الطقوس بالضرورة من صنع البشر.
ودخل يوشع بن نون بيت المقدس وشهد أتباعه أيضًا بأن لا إله إلا الله، وكان على أتباع كل نبي جديد الإيمان بالنبي السابق والنبي القادم. ثم جاء النبي داوود وتبعه النبي سليمان ورفعا قواعد بيت لله في مدينة القدس وأتموا بنيانه لعبادة الله وتعظيمه بشهادة أن لا إله إلا الله.
وعندما جاء المسيح عيسى لتصديق رسالة موسى، كان على أتباع موسى تصديق المسيح واتِّباعه، وشهادة أن لا إله الا الله، وأن المسيح، وموسى وإبراهيم رسل الله. فمن عبد المسيح وأمه مريم الصديقة كانت هذه الطقوس بالضرورة من صنع البشر. (على أنبياء الله جميعهم الصلاة والسلام).
وعندما جاء محمد عليه الصلاة والسلام لتصديق رسالة من قبله من الأنبياء، كان على أتباع المسيح وموسى قبول النبي الجديد المذكور لديهم في التوراة والإنجيل، وشهادة أن لا إله الا الله، وأن محمد، والمسيح، وموسى وإبراهيم رسل الله. فمن عبد النبي محمد أو توسل إليه أو طلب المعونة منه أو من آل بيته كانت هذه الطقوس بالضرورة باطلة ومن صنع البشر.
“الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”[8].
وأُسري برسول الله محمد ليلة الإسراء إلى بيت المقدس واجتمع بجميع الأنبياء وصلى بهم، ومنه عُرج به إلى السماوات العلى، وقد كان المسجد الأقصى وجهة المسلمين الأولى في الصلاة قبل تحويلها إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة حتى يُستخلص من أتباع النبي محمد المخلصين لله من الذين ينقلبون عليه.
“سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”[9].
وتكون الأرض المقدسة في بيت المقدس نقطة انطلاق لأحداث نهاية العالم وعودة المسيح عليه السلام الثانية والذي سوف يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئت جورًا وظلمًا، ثم البعث لجميع البشر من بوابة السماء والعودة الى السماء العليا حيث يكون الحساب للناس جميعًا من قبل الخالق.

المنطقي من الله والمعقد من البشر:
تجتمع الإنسانية في أصل واحد وهدف واحد وتمضي نحو غاية واحدة، وهي معرفة الخالق وعبادته وحده.
إنه يكفي لأن نقوم بزيارة لدولة الهند على سبيل المثال، ونقول بين الجماهير: الخالق الإله واحد، لأجاب الجميع وبصوت واحد: “نعم، نعم الخالق واحد”. وهذا فعلاً ما هو مكتوب في كتبهم. حتى الملحد عندما يشعر بالخوف الشديد يلجأ إلى القوة التي في السماء لإغاثته.
لكنهم يختلفون ويتعاركون وقد يذبح بعضهم البعض على نقطة أساسية وهي: الصورة والهيئة التي يأتي بها الله إلى الأرض. فالهندي النصراني يقول مثلاً: الله واحد، لكنه يتجسد في ثلاثة أقانيم (الآب، الابن والروح القدس)، والهندي الهندوسي منهم من يقول: يأتي الله بصورة حيوان أو إنسان أو صنم.
وكثيرًا ما نسمع من غير المسلمين الموحدين أنهم لم يكونوا يعتقدون بوجود دين على وجه الأرض يقول بلا إله إلا الله. فقد اعتقدوا أن المسلمون يعبدون محمدًا، وأن المسيحيون يعبدون المسيح، وأن البوذيون يعبدون بوذا، وأن ما يجدونه من ديانات على وجه الأرض لا يطابق ما في قلوبهم.
هنا يتبين لنا أهمية تبليغ الدين الحق الذي كان ولا زال ينتظره الكثير بفارغ الصبر. والذي هدفه ايصال رسالة التوحيد فقط ضمن حدود لا اكراه في الدين، وذلك باحترام حرمات الآخرين وأداء ما عليهم من التزامات مقابل بقائهم على دينهم وتوفير الأمن والحماية لهم. كما حدث في فتح بيت المقدس وفتح مصر وبلاد الأندلس وغيرها الكثير.
والدليل هو ما نشاهدهُ اليوم من معالم الحضارة الإنسانية في مدينة القدس من المسجد الأقصى إلى قبة الصخرة وكنيسة القيامة وغيرها من العمائر الأخرى كالمساجد والكنائس والأديرة.
هناك شيء يُدعى الفطرة السليمة، أو المنطق السليم، فكل ما هو منطقي وموافق للفطرة السليمة والعقل الصحيح فهو من الله، وكل ما هو مُعقد فهو من البشر.
على سبيل المثال:
دين الله واضح ومنطقي، ولا ألغاز فيه. فإذا أخبرنا رجل دين مسلم أو نصراني أو هندوسي أو من أي ديانة أخرى، أن للكون خالق واحد أحد، ليس له شريك ولا ولد، لا يأتي إلى الأرض بصورة إنسان أو حيوان ولا حجر ولا صنم، وأنه علينا أن نعبده وحده ونلجأ إليه وحده بالشدائد، فهذا فعلاً دين الله، أما إن أخبرنا عالِم دين مسلم أو نصراني أو هندوسي الخ، أن الله يتجسد بأي صورة معروفة لدى البشر، ويجب أن نعبد الله ونلجأ إليه عن طريق أي شخص أو نبي أو قسِّيس أَو قدِّيس فهذا التصور من صنع البشر.
دين الله أيضًا مجاني، فالجميع لديه الحرية في الصلاة والتعبد في بيوت الله، دون الحاجة لدفع اشتراكات للحصول على عضوية للتعبد فيها، أما إن فُرض عليهم أن يُسجلوا ويدفعوا النقود في أيٍّ من دور العبادة للتعبد فهذا من البشر. أما إن أخبرهم رجل الدين أن عليهم أن يُخرجوا صدقةً لمساعدة الناس مباشرة فهذا من دين الله.
الناس سواسية كأسنان المشط الواحد في دين الله، فإنه لا فرق بين عربيٍّ ولا أَعجميٍّ ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى. فلو اعتبر البعض أن مسجد معين أو كنيسة أو معبد للعرق الأبيض فقط في حين أن الأسود له مكان منفصل، فهذا من البشر.
تكريم المرأة والرفع من شأنها مثلاً، هو أمر من الله، لكن قمع المرأة من البشر. فإذا كانت المرأة المسلمة مقمعة في بلدٍ ما مثلاً، فالمرأة الهندوسية والبوذية والنصرانية مقمعة في البلد نفسه. هذه ثقافة شعوب وليس لها علاقة بدين الله الصحيح في شيء.
دين الله الصحيح دائمًا في توافق وتناغم مع الفطرة، فمثلاً، أي مُدخن للسيجار أو شارب للخمر، يطلب من أولاده دائمًا الابتعاد عن شرب الخمر والتدخين لقناعته العميقة بخطرهما على الصحة والمجتمع. فعندما يُحرِّم الدين الخمر مثلاً، فهذا بالفعل أمرٌ من أوامر الله، لكن إذا جاء الدين ليحرِّم الحليب على سبيل المثال، فليس فيه منطق، فالجميع يعلم أن الحليب مفيدٌ للصحة. إن من رحمة الله ولطفه في خلقه أن سمح لنا بأكل الطيبات، ونهانا عن أكل الخبائث.
غطاء الرأس للمرأة، والاحتشام للرجال والنساء مثلاً أمرٌ من الله، لكن تفاصيل الألوان والتصاميم من البشر، فالمرأة الصينية الريفية الملحدة والريفية النصرانية السويسرية تلتزم بغطاء الرأس على أساس أن الاحتشام أمر فطري.
الإرهاب مثلاَ، منتشر بأشكال كثيرة في العالم بين طوائف جميع الديانات بأعداد كبيرة. بينما من يمارس الإرهاب باسم الإسلام يشكلون 01, 0% من تعداد المسلمين.

مدينة القدس مهد ثلاث شرائع لدين واحد:
كما توحد البشر في مصدر واحد للوجود وفي القيم الأخلاقية والمعاني الإنسانية، وتشابهت مشاكلهم وتحدياتهم وطموحاتهم، تنوعت واختلفت أيضًا ثقافاتهم، تقاليدهم وأشكالهم وألوانهم.
ويتجلى هذا التنوع والاختلاف في أعظم صوره في مدينة القدس، التي هي إحدى أقدم المدن الحضارية في العالم، والتي تتميز عن غيرها من المدن بأنها احتضنت خلال تاريخها الحضاري العريق ثلاث ثقافات متنوعة تعود لشرائع سماوية ثلاثة مقدسة لدين واحد وهو الإيمان بالخالق الذي ليس له شريك ولا ولد وعبادته مباشرة بدون وسيط.
هذا التنوع الذي هو ضرورة كونية تُلزم الإنسان ضرورة استمرار منطق الحوار.
“ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ “[10].
والغاية من هذا التنوع هو: التعارف والتكامل بين جميع الأجناس والأعراق. وطريق الحوار هو الطريق الذي سلكه رسل الله من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم ۚ ْإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” [11].
وهذا التنوع لا يُشكل عائقًا أمام التواصل الإنساني، فالحوار له أصول ومنطلقات وجودية وإيمانية، تُحتِّم على الإنسان احترامها والانطلاق منها للتواصل مع الآخر؛ لأن الغاية من هذا الحوار هو التخلص من التعصب والهوى الذي هو عبارة عن إسقاطات للانتماءات العصبية العمياء؛ التي تحول بين الإنسان وحقيقة التوحيد النقي، وتؤدي إلى التصادم والدمار كما هو واقعنا الآن.
وباعتراف القرآن الكريم -وهو كتاب الله الوحيد الذي لم يتغير ولم يتبدل رغم مرور مئات السنين -بالحقائق الكونية وبعرضه ملخص الرسالات السماوية التي تجتمع في أصل التوحيد وتختلف في الشرائع، وبدعوة أتباعه إلى الاعتراف بهذا الأصل، كان هذا الكتاب الخاتم الذي جاء به النبي الخاتم تتويجًا لهذا التواصل البشري. والإنسان المؤمن يُسلِّم بأن الله هو مصدر كل شيء، وهذا هو الدافع الأكبر لرحلته في الحياة وفق منهج الله وشريعته.
وهنا تتجلى عظمة الإسلام في شموليته وبساطته، فمصطلح الإسلام يعكس علاقة الإنسان مع رب العالمين، ولا يمثل اسم شخص بذاته أو مكان، على خلاف الديانات الأخرى. على سبيل المثال لا الحصر: اليهودية أخذت اسمها من يهوذا بن يعقوب عليه السلام، والمسيحية أخذت اسمها من المسيح عليه السلام، والهندوسية أخذت اسمها من اسم المنطقة التي نشأت فيها الخ.

نجاح الإسلام كمنهج:
الحياة الدنيا بداية لرحلة أبدية يستأنفها الإنسان بعد الموت بالبعث والحساب ومن ثم الجزاء، ويعتبر الإسلام أن وجودنا في هذه الدنيا هو لهدف وغاية سامية وهي معرفة الله عز وجل وعبادته بالتوجه إليه مباشرة.
ورغم قصر الحياة الدنيا فهي بمثابة دار ابتلاء وامتحان للبشر ليتمايزوا على درجات ومراتب عند اقبالهم على الحياة الآخرة.
ولقد وضع الخالق قوانين الطبيعة والسنن التي تحكمها وتصون نفسها بنفسها عند ظهور فساد أو خلل بيئي وتحافظ على وجود هذا التوازن بهدف الإصلاح في الأرض واستمرار الحياة على نحو أفضل. وأن ما ينفع الناس والحياة هو الذي يمكث ويبقى في الأرض. وعندما تقع الكوارث التي يتضرر منها البشر كالأمراض، البراكين، الزلازل والفيضانات، تتجلى أسماء الله وصفاته كالشافي والحفيظ مثلاً، في شفائه للمريض وحفظه للناجي، أو اسمه العدل في عقاب الظالم لغيره والعاصي، ويتجلى اسمه الحكيم في ابتلاء وامتحان غير العاصي والذي يُجازى عليه بالإحسان إن صبر وبالعذاب إن ضجر، وبذلك يتعرف الإنسان على عظمة ربه من خلال هذه الابتلاءات تمامًا كما يتعرف على جماله من خلال العطايا. فإن لم يعرف الإنسان إلا صفات الجمال الإلهي فكأنه لم يعرف الله عز وجل. وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، حيث أنه لا يوجد شر مطلق بالوجود.
وقد نجح الإسلام كمنهج، بعقيدته الواضحة البسيطة والموافقة للفطرة البشرية، وتغطيته لجميع قضايا الحياة في كل زمان ومكان، وبحفظه لأعراض وأموال الناس عن طريق فرضه لعقوبات صارمة لعقاب من يقصد الإفساد في الأرض، والتي تُعطَّل في حالات القتل الخطأ أو السرقة بسبب الجوع والحاجة الشديدة أو الإكراه، ولا تُطبق على الصغير والمجنون أو المريض نفسيًا أو مع عدم وجود شهود، فيفرح بها جميع أفراد المجتمع، والتي لن يعترض عليها إلا المجرمين وقطاع الطرق والمفسدين لخوفهم على أنفسهم.
إنه ما من مستشرق درس الإسلام وحضارته – مهما كان موقفة منه - إلا واعترف بأن الإسلام دين ودولة.
ولكن ابتعاد المسلمين عن دينهم الصحيح وعجزهم عن نشر مبادئ الإسلام بصورة صحيحة ساهم في العقود الأخيرة بازدياد نسبة الملحدين والمشككين والحائرين في العالم.
فبتوفير الإسلام للترابط والانسجام بين العقل والدين، العقل والنقل (كتاب الله وسنة رسوله)، والعقل والقلب، فإنه لا تنوير ولا نهضة ولا تقدم ولا جمال ولا علم حقيقي إلا بالإسلام.

الخلاصة:
قد اختار الخالق مدينة القدس لعبادته وحده وتنزيهه عن أي نقص، (مثل النسيان، أو مصارعة نبي من أنبيائهم، أو الجهل، الخوف، أو التعب وغيرها من الصفات البشرية أو الحيوانية) سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا.
كما جُعلت مدينة القدس خاصة بالمؤمنين الذين أكملوا طريق الإيمان وآمنوا بجميع أنبياء الله بما فيهم موسى، المسيح ومحمد عليهم الصلاة والسلام، الذين هم صفوة خلقه وحملة رسالاته وقد أكرمهم وأجلهم وعصمهم من الكفر، ونزههم عن مقارفة الكبائر (الزنا، القتل، السرقة، الخ).
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
[ البقرة: 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
[ البقرة: 136]
هذا الإيمان الذي يتمثل في دين الإسلام.
والذي باعترافه بجميع أنبياء الخالق قد شكل دين عالمي يستوعب جميع الثقافات والحضارات.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء:105)
[1] (الذاريات:56-58).
[2] (البقرة: 37).
[3](النحل:36).
[4] (الزمر:3).
[5] (آل عمران:64).
[6] (غافر: 78).
[7] (غافر:51).
[8] (آل عمران: 157).
[9]) الإسراء:1).
[10] (هود:118).
[11] (الحجرات:13).