في حواري مع أحد العلمانيين الفرنسيين يومًا، كان قد سألني قائلاً: لماذا لا يُفصل الدين عن الدولة، وعن حياة الناس وسلوكهم، كما في التجربة الفرنسية مثلاً.
قال أيضا: ولماذا لا تكون المرجعيات في المجتمع لرأي الإنسان ووجهة نظره فقط كما هو الحال في الغرب؟
قلت له مبتسمة: تقصد مرجعيات تعود لأهواء الإنسان ورغباته وتقلبات مزاجه!
قلت له مستطردة: إذا كنت تقصد المسيحية فنعم، فالمسيحية عقيدة روحية فقط ولا ينبثق منها نظام.
أما الإسلام فهو نظام حياة، لا يفصل عن الحياة. إن الإسلام عبارة عن عقيدة روحية تشريعية، ينبثق منه نظام حياة ينظم كل العلاقات.
علاقة الإنسان بنفسه. (مأكل وملبس وأخلاق).
علاقة الإنسان بالإنسان. (عقود ومعاملات).
علاقة الإنسان بخالقه. (عقائد وعبادات).
الدولة في الإسلام ليست دولة “دينية” بالمعنى المفهوم في الفكر الغربي سابقًا.
بل إن في المفهوم الإسلامي لا طبقية ولا رهبانية ولا قداسة لفعل البشر.
وهي دولة واجبها الرئيس خدمة مصالح الناس. و ليست دولة مدنية تفصل الدين عن الحياة.
بل هي دولة بشرية تطبق الأحكام الشرعية.
فكان مما سمعت لشاب مثقف وأعجبني كثيرًا أنه:
عندما قال القرآن الكريم في سورة البقرة -43
وأقيموا الصلاة.
قال أيضًا في سورة المائدة -2
أوفوا بالعقود.
وعندما قال في سورة البقرة -43
وآتوا الزكاة.
قال أيضًا في سورة التوبة-4
وأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم.
وهو ما يعبر عن السياسة الخارجية.
وعندما قال محمد صلى الله عليه وسلم:
خذوا عني مناسككم.
تحدث أيضًا عن الاقتصاد والملكية العامة (البترول والغاز).
حيث قال:
الناس شركاء في ثلاثة: النار والماء والكلأ.
قلت له:
نحن في الواقع بحاجة إلى شريعة ربانية ثابتة، تناسب الإنسان في كل أحواله، ولا تتغير بحسب الأهواء، كما فعلوا في تحليل الرِّبا والمثلية.
ولا تُكتب من قبل الأقوياء لتكون ثِقلاً على المستضعفين، كما في النظام الرأسمالي، ولا شيوعية تعارض الفطرة في الرغبة في التملك.
قلت له مستطردة: التجربة الفرنسية جاءت كردة فعل على تسلط وتحالف الكنيسة والدولة على مقدرات الشعب وعقولهم في العصور الوسطى.
العالم الإسلامي لم يواجه هذه المشكلة قط، نظرًا لعملية ومنطقية النظام الإسلامي.
سألني زائر لاتيني يومًا عن الفرق بين النظام الشيوعي، الرأسمالي، وبين الإسلام.
قلت له:
رَسَمَت الرأسمالية منهجًا حرًا للإنسان، وَدعتهُ للسير على هديه، حيث ادعت الرأسمالية أن هذا المنهج المنفتح هو الذي سيوصل الإنسان للسعادة الخالصة، لكن الإنسان وجد نفسه في نهاية المطاف يقبع في مجتمعًا طبقيِا، فإما غنًا فاحشًا يقوم على الظلم للغير، أو فقرًا مُدقعًا للمُلتزم أخلاقيًا.
وجاءت الشيوعية فألغت كل الطبقات، وحاولت أن ترسم مبادئ أكثر صلابة، لكنها خلقت مُجتمعات أكثر فقرًا وألمًا، وأكثر ثورية من غيرها.
وأما الإسلام فقد حقق الوسطية، وكانت الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، فقدمت للإنسانية نظامًا عظيمًا بشهادة أعداء الإسلام.
لكن هناك من المسلمين من قصَّروا في الالتزام بقيم الإسلام العظيمة.
قلت له:
بخصوص حرية التملك في الرأسمالية، فالملكية الخاصة هي المبدأ العام.
أما في الإاشتراكية، فالملكية العامة هي المبدأ العام.
أما الإسلام فقد سمح بملكيات ذات أشكال متنوعة:
الملكية العامة: وهي عامة لمجموع المسلمين مثل الأراضي العامرة.
ملكية الدولة: الثروات الطبيعية من غابات ومعادن.
ملكية خاصة: تكتسب فقط عن طريق العمل الاستثماري بما لا يُهدد التوازن العام.
قال: وماذا بخصوص الحرية الاقتصادية؟
قلت له: في الرأسمالية، تُترك الحرية الاقتصادية بلا حدود.
أما في الاشتراكية، فمصادرة الحرية الاقتصادية تمامًا.
أما في الإسلام، يُعترف بالحرية الاقتصادية في نطاق محدود يتمثل في:
التحديد الذاتي النابع من أعماق النفس بناءً على التربية الإسلامية، التي تمنع أعمالاً متعارف على تأثيرها السيئ علي المجتمع مثل: الغش، والمَيسِر، والرِّبا، وغيرها.
قال: هل تعترفون في الديمقراطية؟
قلت له: لدينا ما هو أفضل من الديمقراطية، لدينا الشورى.
قال: وما الفرق؟
قلت له: الديمقراطية هي عندما تأخذ رأي جميع أفراد أسرتِك بعين الاعتبار في قرار مصيري يخص الأُسرة مثلاً، بغض النظر عن خبرة هذا الفرد أو عمره أو حكمته، من طفل في رياض الأطفال إلى الجد الحكيم، وتساوي بين آرائهم في اتخاذ القرار.
أما الشورى فهي توجهك لاستشارة كبار السن والمقام وأصحاب الخبرة لما يصلح أو لا يصلح.
قلت له معقبة: الفرق واضح جدًا، وأكبر دليل على الخلل بالأخذ بالديمقراطية هو إعطاء الشرعية في بعض الدول لتصرفات هي في حد ذاتها مخالفة للفطرة والدين والأعراف والتقاليد، مثل المثلية الجنسية والرِّبا وغيرها من الممارسات المقيتة.
لمجرد الحصول على الأغلبية في التصويت، وبكثرة الأصوات التي تنادي بالانحلال الأخلاقي، كانت الديمقراطية قد ساهمت في خلق مجتمعات لا أخلاقية.
قلت له أيضًا: إن الفرق بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية هو خاص بمصدر السيادة في التشريع، فالديمقراطية تجعل السيادة في التشريع ابتداءً للشعب والأمة.
أما في الشورى الإسلامية، فإن السيادة في التشريع تكون ابتداءً لأحكام الخالق سبحانه وتعالى والتي تجسدت في الشريعة، وهي ليست إنتاجًا بشريًا.
وما للإنسان في التشريع إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، وكذلك له سلطة الاجتهاد بما لم ينزل فيه شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة البشرية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي.
إن الاسلام ينظر للحياة كما ينبغي أن تكون.
إن ما يتطلع إليه الناس هو دين متوازن يُلبِّي الحاجات الروحية التي لا غنى عنها، ولا يُهمِّش الحاجات المادية للإنسان. الدين يدعو إلى الوسطية.
وهو المبدأ الذي شدَّد عليه الدين السماوي الخاتم الذي جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ليذكر البشر بعبادة خالقهم الواحد الأحد مباشرة بدون وسيط و ليُصحح الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة.
والذي أدى لتشويه مفهوم الدين وربطه بالروحانيات فقط، وبالتالي أدَّى إلى انتشار الخرافات مما أدَّى إلى صرف الناس عن الدين بالكلية.
إضافةً إلى أن الدين أصبح مستغلاً لتحقيق أهداف ومآرب خاصة، ومستخدمًا كوسيلة للضغط على الشعوب، وهذا ما دفع كثير من الدول لاتباع نهج ما يُدعى “العلمانية “، وهو فصل الدين عن الدولة.
وبتوفير الإسلام للترابط والانسجام بين العقل والدين، العقل والنقل(القرآن والسنة)، والعقل والقلب، فإنه لا تنوير ولا نهضة ولا تقدم ولا جمال ولا علم حقيقي إلا بالإسلام.
كلمة أخيرة:
لقد نجح الإسلام الذي يعني:
الإيمان بخالق الكون الذي ليس له شريك ولا ولد، وعبادته وحده بدون قسيس ولا قديس أو صنم أو أي وسيط،
نجح هذا الدين كمنهج، بينما فشلت الرأسمالية والشيوعية، وإنه ما من مستشرق درس الإسلام وحضارته – مهما كان موقفة منه - إلا واعترف بأن الإسلام دين ودولة.
ولكن ابتعاد المسلمين عن دينهم الصحيح وعجزهم عن نشر مبادئ الإسلام بصورة صحيحة ساهم في العقود الأخيرة بازدياد نسبة الملحدين والمشككين والحائرين في العالم.
وبدأت البشرية تكفر بكل العقائد لجهلها بالدين الصحيح وفساد ما يُعرض عليها من معتقدات.
ولقد تقدم الناس في الغرب بالعلوم والمعارف عندما تركوا المعتقدات الخاطئة والتي كانت تقوم على أساس الدين المشوه لديهم، وأخذوا بأسلوب العلم والمنطق.
لكن مع توجههم للعلم بطريقة سليمة كانوا قد خسروا القيم والأخلاق والغاية من وجودهم بتغاضيهم عن اعتناق الدين الصحيح.
من كتاب لماذا الدين؟ رحلة من الذاكرة.
فاتن صبري