الحق بيِّن والباطل بيِّن:
قال لي أحدهم يومًا: “لا توجد حقيقة مطلقة، حيث لا وجود لديانة حقيقية وجميع الديانات متساوية وصحيحة، وأن كل الطرق تؤدي إلى الله. ولا وجود لصواب أو خطأ لأي شيء في الوجود. كل ما في الوجود من مبادئ نسبي وليس مطلق.
قلت له: هل أنت متيقن من ذلك تماماً؟
قال: نعم.
قلت له: إنك قد أصدرت الآن عبارة مطلقة – وهذا في حد ذاته يؤكد وجود ما هو مطلق.
قال: إن عدم وجود حقيقة مطلقة هو الحقيقة الوحيدة، يستطيع الإنسان الإيمان بما يحلو له طالما لا يفرض آرائه على الغير.
قلت له: عبارتك هذه بحد ذاتها هي إيمان بشأن ما هو صواب وخطأ، وأنتم تحاولون فرضها على الغير، فأنتم تتبنون معيارًا للسلوك وتجبرون الجميع على الالتزام به، وبذلك تنتهكون ذات الشيء الذي تزعمون أنكم تتمسكون به – وهذا موقف فيه تناقض ذاتي.
قال: التسامح هو المطلق الوحيد، وبناءً عل ذلك فعدم التسامح هو الشر الوحيد. فإصراركم أنتم المسلمون على أن إيمانكم هو الحق المطلق يُعتبر ضد التسامح، بل ويُعتبر الجريمة العظمى.
قلت له: التسامح هو في احترام إرادة الاختيار التي وهبها الله للجميع، وبانصاف المسلم غير المسلم في التعامل معه، وعدم ظلمه ولا أن يبخسه حقه. ولكن في المقابل التسامح ليس في الاعتراف بالتصرف الخاطئ نفسه والتسليم به على أنه صواب.
إن وجود نظريات وقناعات متنوعة عند البشر لا يعني بعدم وجود حقيقة واحدة صحيحة، فمهما تعددت مفاهيم الناس وتصوراتهم على سبيل المثال عن وسيلة المواصلات التي أستخدمها أنا يوميًا للتنقل، لا ينفي حقيقة أنني أملك سيارة سوداء اللون، ولو اعتقد العالم بأسره أن سيارتي حمراء، فهذا الاعتقاد لا يجعلها حمراء، فهناك حقيقة واحدة وهي أنها سيارة سوداء. فلا يصح إلا الصحيح ولو اجتمع العالم بأسره على بطلانه، والخطأ واضح كوضوح الشمس ولو أقر بصحته جميع البشر.
أنتم تتبنون هذا الرأي ببساطة لرغبتكم في التخلي عن مسؤولياتكم تجاه أفعالكم. فوجود حقيقة مطلقة يعني بحتمية وجود مبادئ مطلقة للصواب والخطأ، وبالتالي وجود مسؤولية تجاه هذه المبادئ. وهذه المسؤولية هي ما تتهربون منه.
وسوف نبين في هذا المقال لماذا الإسلام هو دين الحق والحقيقة المطلقة التي يفتخر المسلم بها.
أدلة على وجود حقيقة مطلقة:
الضمير: (الوازع الداخلي) مجموعة المبادئ التوجيهية الأخلاقية، والتي تُقيد السلوك البشري، ودليل على أن العالم يسير بطريقة معينة وأن هناك صواب وخطأ. هذه المبادئ الأخلاقية عبارة عن التزامات اجتماعية، لا يمكن الاختلاف عليها، أو أن تُصبح موضوع استفتاء عام. إنها حقائق اجتماعية لا غنى للمجتمع عنها في محتواها ومعناها، فدائمًا مثلاً ما يُنظَر إلى عدم احترام الوالدين أو السرقة على أنه سلوك بغيض، ولا يمكن تبريره على أنَّه صدق أو احترام. وهذا الأمر ينطبق بصورة عامة على كل الثقافات في جميع الأزمنة.
العلم: العلم هو إدراك الأشياء على حقيقتها، كما أنه المعرفة واليقين، لذلك يعتمد العلم بالضرورة على الإيمان بوجود حقائق موضوعية في العالم يمكن اكتشافها وإثباتها. فما الذي يمكن دراسته إن لم توجد حقائق ثابتة؟ وكيف يتسنى للمرء معرفة ما إذا كانت النتائج العلمية حقيقية؟ في الواقع، إن القواعد العلمية نفسها مبنية على وجود حقائق مطلقة.
الدين: فكل ديانات العالم تعطي تصور، معنيً وتعريف للحياة، وذلك نتيجة لرغبة الإنسان الملحة في الحصول على إجابات لأعمق الأسئلة. فمن خلال الدين يبحث الإنسان عن مصدره ومآله، وعن السلام الداخلي الذي لا يتحقق إلا بحصوله على هذه الإجابات. فوجود الدين بحد ذاته إثبات أن الأنسان أكثر من مجرد حيوان متطور، وإثبات وجود هدف أسمى للحياة، وعلى وجود خالق خلقنا لحكمة، وزرع في قلب الإنسان رغبة في معرفته. في الواقع، إن وجود الخالق هو معيار الحقيقة المطلقة.
المنطق: إن جميع البشر لديهم معرفة محدودة، وعقول محدودة الإدراك، فيستحيل بذلك منطقيًا تبني عبارات مطلقة السلبية. فلا يستطيع الإنسان أن يقول منطقياً: “لا يوجد إله” (رغم أن الكثيرين قد يقولون ذلك)، لأنه لكي يقول الإنسان مثل هذه العبارة يجب أن تكون لديه معرفة مطلقة بالكون كله من البداية إلى النهاية. وحيث أن هذا الأمر مستحيل، فأقصى ما يستطيع الإنسان أن يفعله منطقياً هو القول: “بالمعرفة المحدودة التي أمتلكها، أنا لا أؤمن بوجود الله.”
التوافق: إنكار الحقيقة المطلقة يؤدي إلى:
- التناقض مع يقيننا من صحة ما في الضمير، الخبرات ومع الواقع.
- انعدام لوجود صواب أو خطأ لأي شيء في الوجود. فلو كان الصواب عندي هو تجاهل قواعد السير على سبيل المثال، فسوف أعرض حياة من حولي للخطر. فيحدث بالتالي التصادم في معايير الصواب والخطأ بين البشر. ويستحيل بناءً على ذلك التيقن من أي شيء.
- حصول الإنسان على الحرية المطلقة لفعل كما يحلو له من جرائم.
- استحالة وضع القوانين أو تحقيق العدل، فليس للغالبية الحق في فرض المبادئ على الأقلية.
فالإنسان بالحرية المطلقة يصبح كائنًا قبيحًا، وكما ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه عاجز عن تحمل هذه الحرية. فالتصرف الخاطئ خاطئ، حتى لو اجتمع العالم على صحته، وأن الحقيقة الوحيدة والصحيحة أن الأخلاق غير نسبية ولا تتغير مع الزمان أو المكان.
النظام: عدم وجود حقيقة مطلقة يؤدي إلى:
الفوضى. على سبيل المثال، لو لم يكن قانون الجاذبية قانونًا مطلقًا، لن نثق بوقوفنا أو جلوسنا في نفس المكان حتى نقوم بالحركة من جديد. ولن نثق بأن حاصل جمع واحد وواحد هو اثنان في كل مرة، سيكون تأثير ذلك على الحضارة خطيرًا. فستكون قوانين العلم والفيزياء بلا أهمية، ويستحيل عمل الناس في البيع والشراء.
الحقيقة المطلقة لمصدر الوجود:
إن مثل وجود البشر على كوكب الارض السابح بهم في الفضاء، كمثل ركاب من ثقافات مختلفة اجتمعوا على متن طائرة تسير بهم في رحلة مجهولة التوجه ومجهولة القائد، ووجدوا أنفسهم مجبرين على خدمة أنفسهم وتحمل المتاعب على متن الطائرة.
جاءتهم رسالة مع أحد طاقم الطائرة من قائد الطائرة تشرح لهم سبب وجودهم ومكان اقلاعهم ووجهتهم، وتبين لهم صفاته الشخصية وطريقة التواصل معه مباشرة.
قال الراكب الأول: نعم من البديهي أن للطائرة قائد وهو رحيم لأنه أرسل هذا الشخص ليجيب عن أسئلتنا.
قال الثاني: الطائرة ليس لها قائد ولا أصدق المبعوث: نحن جئنا من لا شيء ونحن هنا بلا هدف.
قال الثالث: لم يأت بنا أحد هنا، قد تم تجميعنا بصورة عشوائية.
قال الرابع: للطائرة قائد لكن المبعوث هو ابن القائد وقد أتى القائد في صورة ابنه ليعيش بيننا.
قال الخامس: نعم للطائرة قائد، لكنه لم يرسل أحدًا برسالة ، وأن قائد الطائرة يأتي في صورة كل شيء ليعيش بيننا، وليس هناك وجهة نهائية لرحلتنا وسوف نبقى على متن الطائرة نتنقل من مكان إلى آخر.
قال السادس: لا يوجد قائد وأريد أن اتخذ لنفسي قائدًا وهميًا رمزيًا.
قال السابع: القائد موجود ولكنه وضعنا على متن الطائرة وانشغل، ولم يعد يتدخل في أمورنا ولا في أمور الطائرة.
قال الثامن: القائد موجود وأحترم مبعوثه، لكننا لسنا بحاجة إلى قوانين على متن الطائرة لتحديد إن كان فعل ما صالح أم طالح. نريد مرجعيات في التعامل فيما بيننا تعود لأهوائنا الخاصة ورغباتنا، فنفعل ما يشعرنا بالسعادة.
قال التاسع: القائد موجود وهو قائدي أنا وحدي، وجميعكم هنا لخدمتي. ولن تصلوا إلى وجهتكم في أي حال من الأحوال.
قال العاشر: وجود القائد نسبي ، فهو موجود لمن اعتقد بوجوده، وغير موجود لمن أنكر وجوده وكل تصور من تصورات الركاب عن هذا القائد وهدف الرحلة وطريقة تعامل الركاب مع بعضهم صحيحة.
نفهم من هذه القصة الخيالية والتي تعطي نبذة عن تصورات البشر الفعلية الموجودة حاليًا على كوكب الأرض عن أصل الوجود والهدف من الحياة:
أنه من البديهي أن للطائرة قائد واحد يعرف القيادة ويقودها من جهة إلى جهة أخرى لهدف معين، ولن يختلف على هذه البديهية أحد.
أن الشخص الذي ينكر وجود قائد الطائرة أو لديه تصورات متعددة عنه، هو من يتطلب منه تقديم تفسير وتوضيح ويحتمل تصوره الصواب والخطأ.
ولله المثل الأعلى، فإننا إذا طبقنا هذا المثال الرمزي على حقيقة وجود الخالق فنجد أن تعدد نظريات أصل الوجود لا ينفي وجود حقيقة مطلقة واحدة، وهي:
أن الإله الخالق الواحد الأحد الذي ليس له صورة معروفة عند البشر ولا ولد، مستقل بذاته عن خلقه، فلو أراد العالم بأسره تبني فكرة أن الخالق يتجسد في صورة حيوان مثلاً أو إنسان فهذا لا يجعله كذلك، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
أن الإله الخالق عادل، ومن عدله أن يكافئ ويعاقب، وأن يكون ذا صلة بالبشر، فلن يكون إلهًا لو خلقهم وتركهم، ولهذا فهو يرسل الرسل إليهم ليوضح لهم الطريق ويُبلغ البشر منهجه وهو عبادته واللجوء إليه وحده بدون قسيس ولا قديس ولا أي وسيط. والذي يستحق المكافأة من سلك هذا الطريق، والعقاب لمن حاد عنه، ويتمثل ذلك في الدار الآخرة في نعيم الجنة وعذاب النار.
وهذا ما يُدعى “دين الإسلام”.
تميز الحضارة الإسلامية:
المسلم الحق لا يخلط بين الحضارة والمدنية، فينهج منهج الوسطية في تحديد كيفية التعامل مع الأفكار والعلوم، والتمييز بين:
- العنصر الحضاري: المتمثل بالشواهد العقائدية، العقلية، الفكرية، والقِيم السلوكية والأخلاق ية.
- العنصر المدني: المتمثل في الإنجازات العلمية، والاكتشافات المادية، والمُخترعات الصناعية.
المسلم يأخذ من هذه العلوم والاختراعات في إطار مفاهيمه الإيمانية والسلوكية.
على سبيل المثال:
- الحضارة اليونانية آمنت بالله، ولكنها أنكرت صفة الوحدانية والوجود له، وتصفه بأنه لا يعمل ولا يُريد.
- الحضارة الفارسية قبل الإسلام، كفرت بالله وعبدت الشمس من دونه وسجدت للنار وقدَّستها.
- الحضارة الهندوسية، تركت عبادة الخالق وتعبد الإله المخلوق، والمُتجسد بالثالوث المقدس، والمتكون من ثلاث صور إلهية: الإله ” براهما” في صورة الخالق، والإله “فشنو” في صورة الحافظ، والإله ” سيفا” في صورة الهادم.
- الحضارة البوذية تنكرت للإله الخالق، وجعلت من بوذا المخلوق إلهاً لها.
- حضارة الصابئين، كانوا من أهل الكتاب وتنكروا لربهم، وعبدوا الكواكب والنجوم.
- الحضارة الفرعونية مع بلوغها درجة كبيرة من التوحيد والتنزيه للإله في عهد أخناتون، إلا أنها لم تتخل عن صور التجسيم والتشبيه للإله ببعض مخلوقاته كالشمس وغيرها، فكانت رمزاً للإله. وقد بلغ الكُفر بالله ذروته عندما ادعى فرعون في زمن موسى الألوهية من دون الله، وجعل من نفسه المُشرع الأول.
- حضارة العرب التي تركت عبادة الخالق وعبدت الأصنام.
- الحضارة النصرانية كما ذكرنا كفرت بوحدانية الله، وأشركت به المسيح عيسى وأمه مريم، وتبنت عقيدة التثليث وهي الإيمان بإله واحد متجسد في ثلاثة أقانيم (الآب، الابن، الروح القدس)
- الحضارة الرومانية التي تنكرت للخالق بدايةً، وأشركت به عند اعتناقها النصرانية، حيث دخلت عقائدها مَظاهر الوثنية، من عبادة الأوثان ومظاهر القوة.
- الحضارة اليهودية التي تنكرت لخالقها، واختارت إلهاً خاصاً بها، وعبدت العجل، ووصفوا الإله في كتبهم بصفات بشرية غير لائقة به.
فعندما اضمحلت الحضارات السابقة، وتحولت الحضارة اليهودية والنصرانية إلى حضارتين لا دينيتين، وهما الرأسمالية والشيوعية، فإنه وفقاً لأساليب تعامل هاتين الحضارتين مع الخالق والحياة عقائدياً وفكرياً، فإنهما مُتخلفتين وغير مُتقدمتين، ويتسمان بالوحشية وغير الأخلاقية، وخسروا القيم والأخلاق والغاية من وجودهم، مع وصولهم الذُروة في التقدم المدني، والعلمي والصناعي، لكن ليس بهذا يُقاس تقدم الحضارات.
إن معيار التقدم الحضاري السليم، يستند إلى شواهده العقلية، والفكرة الصحيحة عن الخالق والإنسان والكون والحياة، والتحضر الصحيح الراقي، هو الذي يُوصِل إلى المفاهيم الصحيحة عن الخالق وعلاقته بمخلوقاته، ويضع هذه العلاقة في مكانها الصحيح.
وهي تواصل مخلوقات الله معه مباشرة وعبادته وحده، وهذا الدين الإسلامي العظيم الذي أسس لهذه العلاقة بين العبد وربه.
الحق الذي أقره الخالق بالإيمان به على أنه الإله الواحد الأحد الذي ليس له شريك في الملك وليس له ولد، ولا يتجسد في صورة إنسان، حجر أو حيوان.
وعلى الإنسان التواصل مع هذا الخالق مباشرة وليس عن طريق قسيس ولا قديس.
وبالتالي نصل إلى أن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة المُتقدمة بين هذه الحضارات، لأنها ببساطة حققت التوازن المطلوب.
مواضيع ذات صلة.
مرجع:
كتاب لماذا الدين؟ رحلة من الذاكرة
فاتن صبري