
استغاثة النفس:
كان مما قرأت وأعجبني:
“في الوقت الذي اهتزت فيه نابولي لعروض الممثل كارلينيا karlinija، جاء رجل إلى طبيب مشهور في تلك المدينة للسؤال عن دواء للسوداوية المفرطة-الاكتئاب-، فنصحه الطبيب بالبحث عن تسلية والذهاب إلى عروض كارلينيا، فأجابه المريض: أنا كارلينيا”[1].
واستطرد الكاتب قائلاً:
“المؤمن إيمانًا عميقًا والملحد لا يزوران العيادات النفسية، فقط الباحثون والمشككون. المؤمنون يبحثون ويجدون، والملحدون لا يبحثون ولا يجدون، والنمط الثالث يبحثون ولم يجدوا بعد. بدون الله (الخالق) فإن الحياة تعود إلى ميكانيكا وتصبح لا-حياة. فإن قلت إني ذهبت إلى المترو مبكرًا وركبت المترو ثم وصلت الجامعة وحضرت محاضراتي وعدت قافلاً إلى المنزل، هذه العبارات لا تصلح أن تكون رواية أو قصة قصيرة لأنها تخلو من عنصري الخير والشر، ولا توجد رواية عبر التاريخ كله تخلو من عنصري الخير والشر لأنهما سر الوجود الإنساني وسر التكليف”.
إن هذا التكليف الذي يتكلم عنه الكاتب يتمثل في الشعور الدفين داخل النفس البشرية الذي يقوده إلى فعل الصواب وتجنب الخطأ، وبالتالي حساب وعقاب.

رحلة البحث:
يزعم الملحدون أن كل شيء لا معنى له جوهريًا، وكما يدعى أتباع نظرية داروين أنهم فهموا من الناحية العقلانية أن الكلمات، المعاني، والأفعال ليس لها قيمة، وهذا الكون الشاسع هو مجرد عشوائية غير مفهومة، إذا سقطت ثمرة من على الشجرة وقُسمت إلى نصفين فهذا لا شئ سوى إعادة ترتيب ذرات، والتي هي نفس نتيجة انفلاق رأس إنسان إلى قسمين بواسطة آلة حادة، فهذا مجرد إعادة ترتيب ذرات أيضًا.
وبالتالي لدينا الحرية في إيجاد معنى لأنفسنا من أجل الحصول على حياة مُرضِية. في الواقع إن إنكار الهدف من وجودنا هو في الواقع خداع للذات. وكأننا نقول لأنفسنا: “دعونا نفترض أو نتظاهر بأن لدينا هدفًا في هذه الحياة”.
وكأن حالنا كحال الأطفال الذين يتظاهرون باللعب بأنهم أطباء وممرضين أو أمهات وآباء. إننا لن نحقق السعادة إلا إذا عرفنا هدفنا في الحياة.
لو وُضع إنسان ضد إرادته في قطار فخم، ووجد نفسه في الدرجة الأولى، تجربة فاخرة ومريحة، قمة في الرفاهية. هل سيكون سعيدًا في هذه الرحلة دون الحصول على أجوبة لأسئلة تدور في ذهنه مثل:
كيف ركبت القطار؟ ما الغرض من الرحلة؟ إلى أين تتجه؟ إذا بقيت هذه الأسئلة دون إجابة، كيف يمكنه أن يكون سعيدًا؟
حتى إذا بدأ في الاستمتاع بكل الكماليات التي تحت تصرفه، فلن يحقق أبدًا سعادة حقيقية وذات مغزى. فهل الوجبة الشهية في هذه الرحلة كافية لأن تُنسيه هذه الأسئلة؟ إن هذا النوع من السعادة سيكون مؤقتًا ومزيفًا، لا يتحقق إلا بتجاهل متعمد لإيجاد أجوبة لهذه الأسئلة المهمة، إنها كحالة من حالات النشوى الزائفة الناتجة عن السُكر التي تودي بصاحبها إلى الهلاك. وبالتالي فإن السعادة الحقيقية للإنسان لن تتحقق إلا إذا وجد الأجوبة على هذه الأسئلة الوجودية.
يقول المفكر الإنجليزي جون لوك:
“إذا كان كُل أمل الإنسان قاصرًا على هذا العالم وإذا كنا نستمتع بالحيـاة هنا في هذه الدنيـا فحسب فليس غريبًا ولا مجافيـًا للمنطق أن نبحث عن السعادة ولو على حساب الآباء والأبنـاء”.
بين الوجود والعدم:

آمن الكثير من منكري وجود خالق للكون في وقتنا الحاضر أن الضوء خارج الزمن، ولم يقبل أن الخالق لا يخضع لقانون الزمان والمكان. بمعنى أن الخالق قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وأنه تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته.
آمن الكثير منهم أن الجزيئات المتصلة عندما تنفصل عن بعضها تظل تتواصل مع بعضها في نفس الوقت، ولم يقبل فكرة أن الخالق بعلمه مع عبيده أينما ذهبوا. وآمن بأن لديه عقل دون أن يراه، ورفض الإيمان بالخالق دون أن يراه أيضًا.
رفض الكثير منهم أيضًا الإيمان بالجنة والنار، وقبل بوجود عوالِم أخرى لم يراها. وأخبره العِلم المادي بأن يؤمن ويصدق بأشياء غير موجودة أصلا كالسراب، ويؤمن بهذا ويُسلِّم به، وعند الموت لن تنفع البشر الفيزياء ولا الكيمياء، حيث أنها وعدتهم بالعدم.
فهذا هو الفرق بين المنكر لوجود الله وبين المُؤمن بالله والمُؤمن بكتاب الله؟ الملحد يعتبر المُؤمن بوُجود خالق للكون إنسانًا متخلفًا لأنه قد آمن بشيء لم يَرَه، مع أن المُؤمن يُؤمن بما يَرفع من شأنه ويُعلي مَقامه، والملحد الذي يقدس كتب الفيزياء والكيمياء يؤمن بالعدم الذي يُدني من شَأنه.

وجود الخالق:
إن الإيمان بوجود خالق للكون يقوم على حقيقة أن الأشياء لا تظهر بدون سبب، ولا الصدفة ممكن أن تكون موجدة للكون، لأن الصدفة ليست سببًا رئيسيًا، وإنما هي نتيجة ثانوية تعتمد على توافر عوامل أخرى (وجود الزمان، المكان، المادة والطاقة) لكي يتكون من هذه العوامل شيئًا بالصدفة. فلا يمكن استخدام كلمة “صدفة” لتفسير أي شيء لأنها لا شيء على الإطلاق.

إدراك الحقيقة:
المشكلة في وضع إيماننا الكامل بالعلم المادي التجريبي هي أن هذا العلم أساس متغير. يتم إجراء اكتشافات جديدة كل يوم تنفي النظريات السابقة. لا يزال بعض ما نعتبره علمًا نظريًا. حتى لو افترضنا أن جميع العلوم مثبتة ودقيقة، فلا تزال لدينا مشكلة.
العلم التجريبي في الوقت الحاضر يعطي كل المجد للمكتشف ويتجاهل المنشئ. على سبيل المثال – لنفترض أن شخصًا ما دخل إلى غرفة واكتشف لوحة جميلة، رُسمت بدقة شديدة، وبترتيب وتماثل لوني لا يصدق، ثم يخرج ليخبر الناس عنها. الجميع معجب جدًا بالرجل الذي اكتشف اللوحة لدرجة أنهم نسوا طرح السؤال الأكثر أهمية: “من رسمها؟”
هذا ما يفعله البشر؛ إنهم يعجبون جدًا بالاكتشافات العلمية لقوانين الطبيعة والفضاء لدرجة أنهم ينسون إبداع الذي أنشأ قوانين الكون والطاقة والمادة وما إلى ذلك. كل ما يفعله العلماء هو اكتشاف القوانين. لم يبتدعوا هذه القوانين. لقد أبدعها الخالق.
لا يمكن للإنسان أن يدحض وجود الكاتب لمجرد معرفته بالكتاب، إنهم ليسوا بدائل. العِلم اكتشف قوانين الكون لكن لم يضعها، الخالق هو الذي وضعها.
من المؤمنين من لديه درجات عليا بالفيزياء والكيمياء، لكنه يدرِك أن هذه القوانين الكونية وراءها خالق عظيم، فالعِلم المادي الذي يؤمن به الماديون قد اكتشف القوانين التي خلقها الله، لكن العِلم لم يخلق هذه القوانين. فالعلماء لن يجدوا شيئًا يدرسونه بدون هذه القوانين التي أوجدها الله. في حين أن الإيمان ينفع المؤمن في الدنيا والآخرة.
إنه عند مجرد إصابة الإنسان بإنفلونزا حادة أو حمى شديدة قد لا يستطيع أن يصل لكوب الماء ليشرب، فكيف يستطيع الاستغناء عن علاقته بخالقه؟
يقول «وليم جيمس»: “إنّ أمواج المحيط المصطخبة المتقلبة لا تعكر قط هدوء القاع العميق، ولا تُقلق أمنه، وكذلك المرء الذي عمق إيمانه بالله خليق بألا تعكر طمأنينته التقلبات السطحية المؤقتة، فالرجل المتدين حقاً عصيّ على القلق، محتفظ أبداً باتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف”.

لماذا الدين؟
يستطيع الإنسان بالعِلم المادي أن يصنع صاروخًا، لكن لا يستطيع بهذا العِلم أن يحكم على جمال لوحة فنية مثلاً، ولا تقدير قيمة الأشياء، ولا يُعرفنا الخير والشر. بالعِلم المادي نعلم أن الرصاصة تقتل، ولا نعلم أنه من الخطأ أن نستخدمها لقتل الغير.
يقول ألبرت آينشتاين عالم الفيزياء الشهير:
” لا يمكن أن يكون العِلم مصدرًا للأخلاق، لا شك أن هناك أُسسًا أخلاقية للعِلم، لكننا لا نستطيع أن نتحدث عن أسس علمية للأخلاق، لقد فشلت وستفشل كل المحاولات لإخضاع الأخلاق لقوانين العِلم ومعادلاته”.
ويقول إيمانويل كانط الفيلسوف الألماني الشهير:
“إن البرهان الأخلاقي لوجود الإله أقيم وفق ما تقتضيه العدالة، لأن الإنسان الخيِّر يجب أن يُكافأ، والإنسان الشرير يجب أن يعاقَب، وهذا لن يحدث إلا في ظل وجود مصدر أسمى يحاسِب كل إنسان على ما فعل، كما أن البرهان قائم على وفق ما تقتضيه إمكانية الجمع بين الفضيلة والسعادة، إذ لا يمكن الجمع بينهم إلا في ظل وجود ما هو فوق الطبيعة، وهو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، وهذا المصدر الأسمى والموجود ما فوق الطبيعة يُمثل الإله”.

تحرر من العبودية:
إننا حتمًا، إذا لم نَعبد الخالق، ينتهي بنا المطاف بعبادة “آلهة” أُخرى. فالقلب إما أن يتعلق بأمر مِن أمور الدنيا يسعى لتحقيقه ويجري ورائه للحصول عليه، أو يتعلق بخالقه وأصل وجوده، وبالتالي فإن رغباتنا وأهوائنا قد تستَعبدنا دون أن نشعر. في حين أن ربط قلوبنا بالله عزّ وجَل وبالأخرة، تُخِرجُنا مِن حَلَقة الاستعباد لغيره، وربّ العالمين هو خالقنا وهو أحق من نلجأ إليه ونستعين به.
كثيرٌ من الناس ينجذبون إلى الشهرة والموضة. كما أن الإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي، تَشدّ اهتمام الناس بشَكل مُفرِط، ولها دَوْر كبير في بَث مَفاهيم قاصرة، تدعو للاهتمام بالجزيئات وتشتيت الأولويات، وهذا يُسهم في معاناتنا، ويجعلنا نعيش حياةً مضطربة وغير سعيدة.
كما أن بعض المعايير الاجتماعية وغيرها من الضغوط العائلية، التي قد تفرض علينا مراعاة تقاليد ومفاهيم موروثة، يبعدنا عن المطلوب منا في هذه الحياة وواجبنا تجاه خالقنا.

التزام ومسؤولية:
الإيمان بوجود خالق للكون التزام ومسؤولية، فالإيمان يجعل الضمير متيقظًا، ويحث المؤمن على محاسبة نفسه في كل صغيرة وكبيرة، المؤمن مسؤول عن نفسه وأسرته وجاره وحتى عن عابر السبيل، وهو يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله، ولا أظن أن هذه من صفات مدمني الأفيون التي يوصم بها المؤمنون اليوم.
أفيون الشعوب الحقيقي هو الإلحاد وليس الإيمان؛ لأن الإلحاد يدعو أتباعه للمادية، وتهميش علاقتهم مع خالقهم برفضهم للدين والتخلي عن المسؤوليات والواجبات، وحثهم على الاستمتاع باللحظة التي يعيشونها بغض النظر عن العواقب، فيفعلوا ما يحلو لهم حال الأمن من العقوبة الدنيوية، معتقدين بعدم وجود رقيب أو حسيب إلهي، ولا بعث أو حساب. أليس هذا وصف للمدمنين حقًا.

مكانة أسمى للنفس:
مما قرأت وأعجبني:
“إذا ارتكب إنسان جريمة يسعى محامي المتهم لإثبات عدم القصد، مع أن الجريمة وقعت بالمنظور المادي، والمجرم معترف، لكن يتدخل القانون لمعرفة القصد والنية ومعرفة حالة النفس أثناء ارتكاب الجريمة. وهنا نضع النفس في مركز أعلى من الواقعة المادية المجردة. فنحن في الحقيقة لا نحكم على ما حدث في العالم لكن نحكم على ما حدث داخل النفس. وهذا يعكس التناقض المبدئي بين الإنسان والعالم، فلابد أن يكون للأخلاق قيمة لا تقاس بالمعايير المادية المجردة ولا تخضع للقوانين الطبيعية. فالسلوك الأخلاقي والتضحية والمُثُل العليا والزهد والتبتل والإيثار هذه الأخلاق الأصيلة إما أنها لا معنى لها وإما أن لها معنى في وجود الله”[2].

يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون:
إن ما نشاهده اليوم في هذه الأزمة من موتى لا يعرف عنهم أحد، ودور مسنِّين تعج بالجثث الهامدة والتي تبرأ منها كل من حولها، ومن يموت في الطريق لا يدري عنه أحد، ومن لديه المال ينتظر العلاج، وكيف أصبحوا يُضحُّون بالكبير من أجل الصغير، ويتسابق المرضى على أَسِرَّة المستشفيات، وكأن هذا الموقف يعرض مشهدًا شبيهًا بمشاهد يوم القيامة.
فأزمة الكورونا أسقطت من قلوب الناس كثيرًا من الرموز التي كانوا يعلقون عليها أوهامهم، وجعلت آلهتهم الزائفة التي يقدسونها من دون الله تتهاوى واحدًا تلو الآخر، فمن كان يعبد المال لم ينفعه ماله، ومن كان يظن أنه بالعلم المادي وحده يمكن أن ينجو لم ينفعه علمه، ومن كان يتوسل بالحجر والصنم لم يعد يقترب منهما خشية العدوى، وكثيرًا ما نسمع عن قساوسة دعوا أتباعهم إلى اللجوء إلى الله مباشرة وتجنب المجيء إليهم، وأصبحت شمس لا إله إلا الله تتلألأ في العالم.
لا شك أن الموقف يدفع بالإنسان دفعًا إلى الرجوع والإنابة لرب العالمين والاستعانة به، وتتجلى كلمات الحديث الشريف في أجمل معانيها:
إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. رواه الترمذي.
ودائمًا في كتاباتي ما أذكر كلمات قد قالها لي عجوز إسباني، قال: نحن في الغرب لا نعبد الله ولا نعبد المسيح، نحن نعبد النساء والمال. ومع أنه قد قال ذلك مازحًا لكن عبارته تحمل كثيرًا من الحقيقة، وتحضرني عبارته الآن وقد قال الجميع في الغرب: اللهم نفسي.
فنحن لا نملك في هذه الحياة إلا أن نقبل
دعوة الخالق للإيمان به والتسليم له وليس لدينا خيار آخر، فإما الوجود وإما العدم،
لنكسب خيري الدُّنيا والأخرة، أو نرضى بالدنيا فتُهلِكنا، ويكون مصرينا الجحيم.
[1] كتاب هروبي إلى الحرية. علي عزت بيجوفتش أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك والفيلسوف الإسلامي.
[2] كتاب شفاء لما في الصدور. دكتور هيثم طلعت.
كتاب – الإلحاد إعلان نجاح أم فشل؟
فان صبري
كتاب لماذا الدين ؟
فاتن صبري