من المواقف الطريفة التي لا أنساها، كانت لأول يوم لي في المركز الثقافي الفرنسي في صنعاء.
أذكر أنني اصطحبت أطفالي لمعرفتهم البسيطة باللغة الفرنسية حينها، والذين كانوا في المرحلة الإبتدائية في ذلك الوقت، فأردت اصطحابهم، لعل وجودهم يؤنس وحشتي.
كان مما فاجئني كثيرًا في اليوم الأول للدراسة، هو اصرار مدرس اللغة الفرنسية ذو الأصول العربية على تحدث جميع من في الفصل باللغة الفرنسية.
لم أكن أتمالك نفسي من الضحك كلما حاولت النطق بالكلمات الفرنسية الصعبة.
قلت للمدرس:
كيف يتسنى لنا التحدث باللغة الفرنسية ونحن حتى لا نعرف الحروف الهجائية.
قال:
كرروا فقط ما أقول لكم، وتعلم الحروف يأتي لاحقَا.
بعد أن أمضيت أسابيع قليلة في تعلم الفرنسية بهذه الطريقة، وجدت نفسي كسيدة بسيطة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تعرف ما هي الأحرف الأبجدية للغة، ولكنها تتكلم اللغة ببساطة.
هذه القصة لها علاقة وطيدة بالإجابة على شبهة متكررة حول القرآن الكريم، وهي وجود بعض الأحرف الهجائية المقطعة في بدايات بعض السور القرآنية.
وأجد نفسي عن تجربة واقعية أمام إجابة عن هذا السؤال والتي ربما تكون إجابة صحيحة تحوي دليل من دلائل ألوهية مصدر القرآن، والذي ينكره البعض من غير المسلمين بسبب وجود هذه الحروف.
فالرسول محمد عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب، ولا بَيعرف ما هي الحروف الأبجدية أصلاً، فكيف له أن ينطق بهذه الحروف الموجودة في بداية بعض السور.
فالأمي لا يعرف النطق بالألف ولا الباء و لا غيرها من الأحرف.
والعجيب أنه عندما ادعى بعض المشركين أن القرآن قد ساعد بكتابته أحد من المتعلمين الرهبان في ذلك الوقت، كان هذا الشخص من غير الناطقين باللغة العربية.
مما يدحض هذا الافتراء تمامًا.
كما جاء في سورة النحل :103
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
وكان من ضمن ما قد ادعوه أن محمدًا عليه الصلاة والسلام قد يكون شاعر أو مجنون.
قال لي زائرٌ هندي من الطائفة الكاثوليكية يومًا: إنني أرى وإن كان القرآن على درجة عالية من النظام والدقة، لكن الحروف المقطعة والغير مفهومة فيه دليل على نقص وعيب؟
قلت له:
ما معنى MBC؟ و BBC هي اختصارات لكلمات مفيدة ولها معاني، قد يعرفها البعض ويجهلها الكثير.
كون أن القرآن كلام الخالق وأتى بهذه الأحرف في بداية السور فهي قد تكون اختصار لمعاني معينة قد نجهلها لكن هو يعلمها سبحانه.
اللغة العربية تتكون من:
حروف المباني: هي حروف مجرّدة: ألف، باء، تاء، عين، قافٌ ….
والتي ليس لها معنى منفردة لكن تتشكل بها الكلمات، فتصبح كلمات ذات معاني.
حروف المعاني: هي الحروف التي لها دلالات، فحرف “على” يفيد الإستعلاء مثلاً، وحرف “مِن” يفيد الإبتداء، أو التبعيض مثلاً …
ومن حروف المعاني: حروف النصب، وحروف الجزم، وحروف العطف، وحروف القسم.
إذا قلت لك على سبيل المثال، ولله المثل الأعلى، أن دولة إيطاليا بصدد عمل مسابقة في الطهي وقامت بتحدي عمل الباستا كالباستا الإيطالية تمامًا،. وأعطت جميع المتسابقين المقادير ذاتها التي تستخدمها، ومع ذلك و باستخدام نفس المقادير يعجز الجميع عن منافسة الباستا الإيطالية.
إن هذه الحروف من مظاهر إعجاز القرآن الكريم، وفيها إشارة إلى أن القرآن الكريم مركب من جنس هذه الأحرف التي يُكوِّن منها العرب كلامهم، ومع ذلك فإنهم يعجزون عن أن يُصيغوا منها مثل هذا القرآن.
وإلى هذا فقد تمت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أن القرآن جاء بنفس أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها.
من الملاحظ أن الحروف تأتي بصورة متقطعة في أوائل السور لجذب الإنتباه إلى الحروف بذاتها بصورة مستقلة وكأنه سبحانه يريد الإشارة لأهمية هذه الحروف لوحدها كونها البنية أو اللبنة الأساسية في تشكيل كلمات وجمل القرآن.
فتارة يشير إليها في بعض السور قبل القسم، وكأنه يقسم بها. وتارة تأتي قبل وصف القرآن أو التنزيل الحكيم أو وصف ذاته تعالى، في إشارة لربط هذا الوصف مع هذه الأحرف، فعندما تكرر في بدايات السور الأخرى فيتم استحضار وصف القرآن أو وصفه تعالى في كل مرة يتم الإشارة فيها لهذه الاحرف.
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.{البقرة: 1-2}
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ. {آل عمران: 1-2}
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ. {الأعراف: 1-2}
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {يونس: 1}
وغيرها من الآيات، فهنا ينبه الله المشركين أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه؛ بل خاطبكم بلسانكم.
والعجيب أن في فترة نزول الوحي لم يعترض أحد من المشركين على هذه الأحرف ويعتبرها دليل على عدم ألوهية مصدر القرآن، ولم يتسائل أحد من مسلمين وغير مسلمين عنها.
قلت له أيضًا: إنك كمن يرى مبني شاهق على درجة عالية من النظام والدقّة، ثمّ يرى في إحدى زواياه تصاميم يُتصوّر أنها زائدة ولا فائدة منها، فيقول: كوني لم أفهمها إذاً فهي عيب في المبنى، وهل مقدار فهمك واستيعابك للأمور مقياس على جودتها من عدمها؟
والأحرى أن تقول: إن من أنشأ هذا المبنى بكلّ هذه العظمة والدقّة والنظم المتقن لا يمكن أن يغفل عن هذه الأشياء، لا بدّ أنّه قد وضعها هنا لحكمة معيّنة لا ينفي وجودها جهلي أنا بها، والغريب أنه لم يعترض أحد في زمن نزول القرآن على هذه الأحرف، بل ودائمًا ما كانوا يثنون على إعجازه وتفرده حتى من أعدائه.
وهذا الكتاب العظيم جاء بأسمى رسالة في الوجود وهي:
الإيمان بإله واحد أحد، الخالق الذي ليس له شريك ولا ولد، وعبادته وحده بدون أي قسيس أو قديس ، وبدون حجر أو صنم، أو أي وسيط.
قال: ولماذا نزل القرآن باللغة العربية؟
قلت له: وبأي لغة كنت ترغب بأن ينزل، لديكم في الهند آلاف اللغات واللهجات، فإي لغة كنت تفضل؟ ولو كان نزل بواحدة من هذه اللغات لقلت لماذا ليس بالأخرى.
قلت له مستطردة: ان الله يرسل الرسول بلسان قومه، والله تعالى اختار رسوله محمد ليكون خاتم الرسل، وكانت لغة القرآن بلسان قومه، وحفظه من التحريف إلى يوم الدين، وكذلك اختار مثلاً الآرامية لكتاب المسيح.
قال بعدها: الله في كتابكم يغير رأيه، أتنكرون وجود الناسخ والمنسوخ لديكم؟
وقد تعجبت كثيرًا من فصاحة نطقه لهذين المصطلحين باللغة العربية مع أن الحوار كان باللغة الإنجليزية.
قلت له:
إن تطور أحكام التشريع، ووقف العمل بحكم سابق، وإحلال حكم آخر لاحق، وتقييد المطلق، وإطلاق المقيد، أمر معهود ومألوف في الشرائع السابقة ومنذ عهد آدم. كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة في سائر الشرائع؛ وكذلك إباحة العمل يوم السبت، كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام، ومن قبله وفي سائر الشرائع، ثم صار مفسدة في شريعة موسى عليه السلام، وقد أمر الله سبحانه بني إسرائيل قتل أنفسهم بعد عبادتهم العجل، ثم رفع هذا الحكم عنهم بعد ذلك، وغيرها الكثير من الأمثلة، فاستبدال حكم بحكم آخر وأرد في نفس الشريعة أو بين شريعة وشريعة أخرى.
وهذا التطور كما ذكرت في الأحكام فقط وليس في الخبر.
قلت له أيضاً: الطبيب الذي يبدأ بعلاج مريضه بدواء معين ومع الوقت يزيد في جرعة الدواء أو يقللها كتدرج في علاج مريضه، يُعتبر بالنسبة لك حكيم.
قلت له مستطردة: وإني لأعجب من سؤالك جدًّا، وقد رحَّبتم بالنسخ الذي قام به القديس بولص والذي لم يكن في حكم واحد من الأحكام فقط، بل بتبديل دينًا بأسره، من التوحيد إلى التثليث، وبنقض عهد الله الأبدي مع أتباع المسيح بالختان كما هو مذكور في كتبكم.
في كتابها “دفاع عن الإسلام”، تقول لورا فيشيا فاغليري:
“كيف يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محَمَّد وهو العربي الأمِّي؟ وعلى الرغم أنَّ محَمَّدا دعا خصوم الإسلام إلى أن يأتوا بكتاب مثل كتابه، أو على الأقلِّ بسورةٍ من مثل سُوَره: “وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” [البقرة: ٢٣]. وعلى الرغم من أنَّ أصحاب البلاغة والبيان الساحر كانوا غير قلائل في بلاد العرب، فإنَّ أحدًا لم يتمكَّن من أنْ يأتي بأيِّ أثر يضاهي القرآن. لقد قاتلوا النبيَّ بالأسلحة، لكنَّهم عجزوا عن مضاهاة السموِّ القرآني” .
مرجع:
كتاب لماذا الدين؟ رحلة من الذاكرة
فاتن صبري