سألتني سائلة يومًا: لماذا يُشار إلى الخالق في القرآن بصيغة التذكير وليس التأنيث؟ أليس هذا دليل على أفضلية الرجل على المرأة لديكم؟

قلت لها: إن الله تعالى لا يوصف بتذكير ولا بتأنيث، واستخدام ضمير المذكر للإشارة إلى الخالق إنما هو من ضرورات الخطاب في اللغة، وما يحتاجه الناس في التفاهم؛ فكل ذكر مخلوق وكل أنثى مخلوق، فالله تعالى هو خالق الذكر والأنثى.

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى” (النجم:45).

وتعالى الله أن يكون له ند أو شبيه، أو زوجة أو ولد.

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (الأنعام:101).

إن من أصول الخطاب أن يشار إلى كل شخص بما يخصه ويميز جنسه، وهذه ظاهرة قديمة في اللغات البشرية. غير أن هناك أشياء ليس لها صلة بالجنس الحقيقي، مثل الجمادات، كالحجر والبحر مثلاً، والمعاني، كالصدق والأمانة، وغير ذلك.

فمثل هذه الأمور لا يلحظ فيها تذكير ولا تأنيث، بالمدلول الأصلي لهذين المصطلحين. وكان ذلك هو السبب الذي جعل بعض اللغات تقسم الأسماء الموجودة فيها إلى ثلاثة أقسام: مذكر ومؤنث.

وقسم ثالث، هو ما يسمى في اللغات الهندوأوربية بالمحايد.

ولكن اللغات البشرية لم تمضِ جميعها على نمط واحد، فقد وزعت اللغات السامية ـ مثلا ـ أسماء القسم الثالث، وهو المحايد على القسمين الآخرين، وصارت الأسماء فيها إما مذكرة وإما مؤنثة.

ومثال ذلك ما حدث في اللغة الفرنسية؛ إذ ليس في أسمائها إلا التذكير والتأنيث، وكانت الإنجليزية في ذلك أعمق من الفرنسية.

إن تقسيم الأشياء إلى مذكر ومؤنث ـ حتى ما لا يوصف في واقع الأمر بذلك ـ هو من خصائص معظم اللغات، خاصة المتواجدة منها الآن؛ وليس من خصائص اللغة العربية وحدها.

إن الشيء ـ أي شيء ـ إذا كان بين أن يوصف في اللغة بالمذكر أو المؤنث، ولم يكن مما يوصف في حقيقة أمره بذلك، فإن اللغة ترجح الإخبار عنه بوصفه مذكرًا؛ لأنه أخف عندهم، ولأنه الأصل، فلا يحتاج إلى علامة، ويتفرع عنه المؤنث بالعلامة الدالة عليه.

يقول إمام النحو سيبويه، رحمه الله:

” واعلم أن المذكر أخفّ عليهم من المؤنث لأن المذكر أول، وهو أشد تمكنًا، وإنما يخرج التأنيث من التذكير؛ ألا ترى أن ” الشيء ” يقع على كل ما أُخبر عنه، من قَبْل أن يُعلم أ ذكر هو أم أنثى، والشيء ذكر؟! “


قال الله تعالى: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ” (الأنعام:73).

قالت: حسنًا، فلماذا عاب الإله لديكم على المشركين أنهم يتركون عبادته، ويعبدون من دونه إناثًا، بمعنى أوثانًا وأصنامًا بأسماء الإناث كـ “العزى” و “مناة” ونحوهما.

وذمهم على ذلك. فلماذا اعتبر أن الإناث أقل منزلة من الذكور؟

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً” (النساء:117).

قلت لها: الله تعالى يُحرم أي عبادة لغيره سواءً كان هذا المعبود مذكرًا أو مؤنثًا، فالله هو الخالق الرازق المستحق للعبادة وحده.

كفار قريش هم من اعتبروا الإناث أقل منزلة من الذكور، وقد كره العربي في ذلك الوقت الإناث حتى كان يمارس عادة وأد البنات. لكن بالمقابل ارتضوا أن يُعطوا للإله صفة الأنثى التي كرهوها لأنفسهم. أي اتخذوا لأنفسهم أوثانًا وأصنامًا بأسماء الإناث كـ “العزى” و “مناة” ونحو.
والله في هذه الآية يعطينا وصفًا لما كانوا يفعلون.

الله لا إله إلا هو:

سأل أحدهم يومًا عن استخدام رب العالمين لضمير الغائب في التعريف عن نفسه في القرآن الكريم، بينما عرَّف عن نفسه بصيغة المتكلم لموسى عليه السلام.

وقال السائل: أليس هذا دليل على أن القرآن ليس من عند الله؟

“الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ” (آل عمران:2-3).

الخطاب هنا موجه إلى محمد عليه الصلاة والسلام.

” كلم الله موسى وقال له: أنا الرب “(سفر الخروج:2).

ببساطة تتلخص الإجابة بما يلي:

هناك فرق بين قصة محمد عليه الصلاة والسلام، ونبي الله موسى عليه السلام. فالله خاطب موسى مباشرة بدون وسيط حينما قال أنا الله، أما القرآن الكريم فهو وحي من الله بواسطة الملك جبريل عليه السلام، فلم يكن خطاب مباشر.

نزل القرآن بلسان عربي مبين، ومن أساليب العرب في البيان أن يتحدث المتكلم عن نفسه تارة بضمير المتكلم ، وتارة بضمير الغائب، وتارة بضمير المفرد، وتارة بضمير الجمع، وهذا من البلاغة في الأسلوب، ومثل هذا لا يدركه إلا أهل اللسان العربي الذين لهم دراية كافية وإلمام بأساليب الخطاب .

وقد أشار الله إلى نفسه بصيغة الجمع أيضًا في آيات كثيرة من القرآن الكريم للدلالة على عظمته سبحانه، وهي الصيغة التي تسمى باللغة الإنجليزية ب Royal We.

أي الصيغة التي يستخدمها ملك او صاحب مقام رفيع للتعريف عن نفسه.

كما في سورة الأنبياء :25

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ.

لكنه أكد سبحانه وتعالى أيضًا على وحدانيته بخصوص العبادة.

الله تعالى عرّف عن ذاته فى القرآن من أول الآيات نزولاً وهى:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم(5) ” .

أي، يا محمد اقرأ باسم ربك الذى خلق

هناك نصوص يتحدث فيها الله بصيغة المتكلم :

وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ”.

“إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”.

” وما خلقت الجن والانس إلآ ليعبدون”.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثم إنكم بعد ذلك لميتون(15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( 16) ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين( 17) وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون(18)”.

فالقرآن لم ينزل بأسلوب واحد، وإنما تنوع في الأساليب، وهذا من تمام الإعجاز والبلاغة .

يقول الدكتور عبد المحسن المطيري في كتابه “دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم” (ص 304):

” من أساليب العرب في البيان: أن يتحدث المتكلم عن نفسه تارة بضمير المتكلم وتارة بضمير الغائب، كأن يقول المتكلم : فعلت كذا وكذا، وذهبت، وآمرك يا فلان أن تفعل كذا، وتارة يقول عن نفسه أيضًا: إن فلانًا – يعني نفسه – يأمركم بكذا وكذا، وينهاكم عن كذا، ويحب منكم أن تفعلوا كذا، كأن يقول أمير أو ملك لشعبه وقومه وهو المتكلم: إن الأمير يطلب منكم كذا وكذا. وهو يشير بذلك أن أمره لهم من واقع أنه أمير أو ملك، وهذا أبلغ وأكمل من أن يقول لهم إنني الملك وآمركم بكذا وكذا .

وقد جاء القرآن بهذا النوع من البيان، فظن الذي لا يعرف العربية أن الله لا يمكن أن يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، وأنه كان لا بد وأن يقول: (نزلت عليك يا محمد الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه) ونحو ذلك، وهذا جهل بأساليب اللغة العربية، وموقعها في البيان والبلاغة، ولا شك أن خطاب الله وكلامه عن نفسه بصيغة الغائب، أبلغ من أن يقول سبحانه : “ألم، أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم نزلت عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الآيات “.

ومن المعلوم من عادة العرب في البلاغة أنها لا تسير على أسلوب واحد في كلامها، بل تنتقل من أسلوب لآخر، حتى في نفس السياق، فضلاً عن أن يكون ذلك منظورًا إليه باعتبار مقامين؛ وهذا فن من فنون البلاغة اللغوية يعرف بــ ” الالتفات “

.قال الزركشي رحمه الله :

” الالتفات : هُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ، تَطْرِيَةً ، وَاسْتِدْرَارًا لِلسَّامِعِ، وَتَجْدِيدًا لِنَشَاطِهِ، وَصِيَانَةً لِخَاطِرِهِ مِنَ الْمَلَالِ وَالضَّجَرِ بِدَوَامِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عَلَى سَمْعِهِ” .

على سبيل المثال:

قوله تعالى :

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (يونس:22)”.

يقول السيوطى :

“ومثاله من الخطاب إلى ضمير الغائب:

حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم، والأصل: “بِكُمْ”. ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم، هو التعجب من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمرعلى خطابهم بنفس الصيغة لفاتت تلك الفائدة. وقيل: لأن الخطاب أولاً كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل “هو الذي يسيركم في البر والبحر”. فلو كان “وجرين بكم” لَلَزِمَ الذَّمُّ للجميع، فالتفتت الآية عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنُهم ما ذكره عنهم في آخر الآية، عُدُولاً من الخطاب العام إلى الخاص”.

مثال على الالتفات من ضمير المتكلم إلى الخطاب قوله تعالى :

“وما ليَ لا أعبد الذي فَطَرني وإليه تُرْجَعون”.

ومن ضمير المتكلم إلى الغائب قوله تعالى:

“إنا أعطيناك الكوثر فَصَلِّ لربك وانْحَرْ”.

ومن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم قوله تعالى:

“والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه”.

ومن ضمير الغائب إلى الخطاب قوله تعالى:

“مالك يوم الدين إياك نعبد”.

و كثيرًا ما يستعمل المتكلم لنفسه ضمير الغائب فيقول مثلا: “العبد لله هو صاحب هذا الإنجاز، ولا فخر”.

أو محسوب, ويقابلها فى الإنجليزية: your (humble) servant. يرجوك أن تفعل الأمر الفلانى.

أو كاتب هذه السطور ويقابلها فى الإنجليزية: the present writer يعتقد أن الصواب هو كذا وكذا… إلخ.

وقد انتشرت هذه الأيام فى رسائل الماجستير والدكتوراه قول الطالب عن نفسه: ويرى الباحث أن.

يتضح لنا مما سبق إعجاز هذا القرآن العظيم الذي جاء برسالة جميع أنبياء الله وهي:

الإيمان بخالق الكون الذي ليس له شريك ولا ولد، وعبادته مباشرة بدون قسيس ولا قديس ولا صنم أو أي

مراجع:

مقدمة د. رمضان عبد التواب ـ رحمه الله ـ لكتاب ” البلاغة في المذكر والمؤنث ” ، لابن الأنباري (37-39) .

كتاب سيبويه (1/22) وانظر (3/241) .

رزان أحمد . لا عقلانية الإلحاد.

“البرهان في علوم القرآن” لبدر الدين الزركشي (3/ 314-330) .

الإسلام سؤال وجواب.

islamqa. info

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *