إنّما نُطْعِمُكُم لِوَجْه الله:

أذكر أننا أقمنا أول عامين لنا في مدينة لاغوس في نيجيريا في شقق فندقية، حتى يتسنى لنا البحث عن منزل مناسب وقريب من مدارس الأولاد، وكنت حريصة على أن أُحضر هدايا بسيطة لجميع عمال التنظيف وطاقم الاستقبال وسائق السيارة بعد عودتي من  أي رحلة سفر، ومُشاركتي لهم في الطعام والشراب، لكنني وبكل أمانة لم تكن الدعوة في بالي في ذلك الوقت، ولكن أردت بهذه الأعمال التقرب إلى الله، وعند قرارنا بمغادرة المكان للانتقال للمنزل الجديد، فوجئنا ببكاء الجميع، وقد أخبرنا السائق أنهم يقولون: إنهم لم يُقابلوا عائلة مسلمة بهذه الأخلاق تنشر روح المحبة والإخاء، وهم يريدون أن يُكافئونا. فلم أعد أعرف هل أفرح بسبب السعادة التي أدخلناها على قلوبهم، أم أحزن لحال المسلمين اليوم، والذي أعطى أهل هذا البلد هذا التصور عن المسلمين، وقلت للسائق: مكافأتنا هي سعادتهم، وتذكرت الآية الكريمة: “إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا”[1]، فارتاحت نفسي.

وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ:

أذكر قصة لمُدرِّسة اللغة الفرنسية، وهي أفريقية من دولة “بنين” المجاورة لمدينة لاغوس حيث نُقيم، والتي كُنت قد أبلغتها بعد المُحاضرة بحاجتي لخادمة للمنزل تتكلم اللغة الفرنسية، لكي أتمكن وأولادي من مُمارسة اللغة الفرنسية معها، فتفاجأت بقولها: أنا مُستعدة لأن أعمل خادمة لديكِ.

قلت لها: أنتِ مُدرَستي ولك احترامك عليّ.

قالت: أنت لطيفة للغاية، ولكنني فعلاً بحاجة لهذا الأمر، فأنت تعرفين أنني آتي كل يوم من دولة “بنين” المجاورة لهذه المدينة، وأنا بحاجة إلى سكن، وسوف أنظف لكِ البيت صباحاً وأعمل في المركز مساءاً، وأنا لاحظت أنكم ودودون جداً، مع أن كتابكم (القرآن) لم يتحدث عن الحب أبداً، ولا حتى عن حب الخالق لعبيده، وكيف يحبهم وهو يُضيق عليهم في العيش.

قُلت لها: بالنسبة للسكن، فتفضلي للسكن بدون عمل ولا مُقابل، فلدينا مُلحق خاص للعاملين ومُمكن أن تشاركيهم في المبيت.

أما بخصوص القرآن، فهل قرأتِ القرآن أصلا؟

قالت: لا، ولكنني سمعت بذلك.

قلت لها: لو قرأتِ القرآن لأدركتِ ما فيه من ذكر لرحمة الله وحُبه لعباده، ولكن حُب الله جل جلاله للعبد ليس كحب العباد بعضهم بعضاً، لأن الحب في مقاييس البشـر هو حاجة يفتقدها المُحب، فيجدها عند المحبوب، ولكن الله جل جلاله غني عنا، فحبه لنا حب تفضل ورحمة، حبُّ قويٍّ لضعيف، وحب غني لفقير، وحب قادر لعاجز، حبُّ عظيمٍ لصغير، وحب حكمة.

قالت: كيف هذا؟

قلت لها: ألا تأخذي بيد طفلك الصغير بكل حب إلى غرفة العمليات ليشقوا بطنه، وأنتِ واثقة تماما من حكمة الطبيب وحبه للصغير وحرصه على نجاته.

قالت: كيف يُحبهم وهو يُقيد حريتهم ولا يسمح لهم بأن يفعلوا ما يحلو لهم؟ ألم تسمعي بالفردانية؟ ألم تسمعي بهذا المفهوم المتطور، وهو أن قرارات الفرد يجب أن تكون مستندة على منفعته ومتعته الشخصية وهو مركز الاهتمام الرئيسي، أي أن مصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات البلد وتأثيرات المُجتمع والدين، وتسمح له بتغيير جنسه، ويفعل ما يحلو له، ويرتدي ويتصرف في الطريق كما يُريد، فالطريق للجميع.

قلت لها: وهل تسمحين لأطفالك بفعل ما يحلو لهم بذريعة حبك لهم؟ هل تسمحي لابنك الصغير أن يُلقي بنفسه من نافذة المنزل أو يلعب بسلك الكهرباء المكشوف؟

قلت لها: عبارة الطريق للجميع صحيحة لكن فهمك لها خاطئ، لو كنت تسكنين مع مجموعة من الأشخاص في منزل واحد مشترك، هل كان سيعجبك تفسيرك لهذه العبارة؟ هل كنت ستقبلين بأن يقوم أحد شركائك في المنزل بعمل مشين كقضاء الحاجة في صالة المنزل بحجة أن المنزل للجميع؟ هل ستقبلين الحياة بهذا المنزل بدون قوانين ولا ضوابط تحكمها؟ فالإنسان بالحرية المُطلقة يصبح كائن قبيح، وكما ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه عاجز على تحمل هذه الحرية.

الفردانية لا يمكن لها أن تكون هوية بديلة عن الهوية الجامعة مهما كانت قوة الفرد أو نفوذه. أفراد المجتمع طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض. فمنهم الجنود والأطباء والممرضون، والقضاة، فكيف يتسنى لأي منهم أن يُغلب منفعته ومصلحته الشخصية على الآخرين ليحقق سعادته، ويكون هو مركز الاهتمام الرئيسي؟

قالت: وكيف تتحقق السعادة إذاً؟

قلت لها: السعادة في الفردانية، هي الانتصار، الهيمنة وامتلاك التكنولوجيا. لكن السعادة في الإسلام، هي القلب المطمئن، الزواج الناجح، المسكن الواسع، الجار الصالح، المركب المريح، المشاركة والتعاون.

وقد جعلت الحضارة الإسلامية والتي تشكلت من مزيج من مختلف الشعوب والقبائل الفردانية  كالرسم البياني، فجعلت حساب وجزاء، واجبات وحقوق، وكما يقع على الفرد العقاب أيضاً يُكافأ، ولقد حرر الإسلام أيضاً الفرد من العصبية القبلية وأعاده إلى الفطرة السليمة، كمدني اجتماعي، يعيش في جماعة تحترمه وتُقدر إمكانيته التفكيرية وقدرته على التعايش مع الآخرين، فالأمة المُتطلعة للتقدم والتي تتبنى هدفاً سامياً، تنطلق من مفهوم الكيان الواحد، فلكل فرد اجتهاده وأفكاره وقدراته، لكن التطبيق يحتاج إلى الجماعة، وبالتالي يتساوى الجميع هنا حسب ما قدمه كل فرد. وبذلك يكون الإسلام قد حدد علاقة الفرد بالمُجتمع، وأوضح بأن الفرد ليس سوى جزءٍ صغير لا يتجزأ من الهوية الجماعية التي بدورها تكفل ضبط إيقاع الحياة. مما أنتج مجتمعاً مستقراً وآمناً، لأنه كلما اختل التوازن بين الطبقات، ستظهر الصراعات، ويُفتقد الرضا في المُجتمع. فلم يعد المال هو المعيار الأعلى الذي يُميز مالكه عن الآخرين، ولا بالمال تتحقق القوة وقيادة العالم. القائد في النظام الإسلامي لا يُقيَّم بما يملك من مال، لكن بما لديه من عِلم وأخلاق وعدل، وبهذه الصفات وحدها استطاعوا سابقاً التقدم وتحقيق الانتصارات.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

“مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”[2].

قالت: الفردانية ترتبط بالشذوذ الجنسي بشكل مباشر، فلماذا لا تُحبون الشاذ جنسياً، فما لديه من مُيول، هو مسألة جينية طبيعية، ومُيول طبيعي، ويجب أن نحترمه.

قلت لها: وهل تحترمي مُيول السارق إلى السرقة؟ فهذا أيضاً مُيول، ولكنه في الحالتين مُيول غير طبيعي، إنه خروج على الفطرة البشرية، واعتداء على الطبيعة، ويجب أن يُقوَّم.

لقد خلق الله الإنسان وهداه إلى الطريق السليم، ولديه حرية الاختيار بين طريق الخير وطريق الشر.

“وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ” .  (البلد:  10)

ولذلك نجد أن المجتمعات التي تُحرِّم المثلية نادراً ما يظهر فيها هذا الشذوذ، والبيئة التي تُبيح وتُشجع على هذا السلوك، تزداد فيها نسبة المثليين، مما يدل على أن الذي يُحدد احتمال الشذوذ لدى الإنسان، هو البيئة والتعاليم المُحيطة به.

ولذلك قال تعالى عن قوم لوط:

” وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) ” . (الأعراف: 80 – 82)

هذه الآية تؤكد أن الشذوذ ليس وراثياً، وليس من أصل تركيب الشفرة الوراثية للإنسان، لأن قوم لوط هم أول من ابتدع هذا النوع من الفاحشة. وهذا يتطابق مع أوسع دراسة علمية، والتي تُؤكد أن الشذوذ الجنسي لا علاقة له بالجينات الوراثية[3].

إن هوية الإنسان تتغير في كل لحظة، حسب مشاهدته للفضائيات، أو استخدامه للتكنولوجيا أو تعصبه لفريق كرة قدم مثلاً، فالعولمة صنعت منه إنساناً معقدا. فالخائن أصبح صاحب وجهة نظر. والشاذ أصبح صاحب سلوك طبيعي، وأصبح لديه الصلاحية القانونية للمشاركة في نقاشات علنية، بل وعلينا دعمه والتصالح معه. وأصبحت الغَلبة لمن لديه التكنولوجيا، فإذا كان الشاذ هو الطرف الذي يمتلك أسباب القوة، فسيفرض على الطرف الآخر قناعاته. مما أدى إلى إفساد علاقة الإنسان بنفسه وبمُجتمعه وبخالقه.  وبارتباط الفردانية بالشذوذ الجنسي بشكل مباشر، تلاشت هنا الفطرة الآدمية التي ينتمي لها الجنس البشري، وسقطت مفاهيم العائلة الواحدة، فبدأ الغرب بوضع حلول للتخلص من الفردانية، لأن الاستمرار بهذا المفهوم سيُضيع المكاسب الذي حققها الإنسان المُعاصر، كما أضاع مفهوم العائلة، وبالتالي ما زال الغرب حتى اليوم يُعاني من مُشكلة تقلص أعداد الأفراد في المُجتمع، والذي أدى إلى فتح الأبواب لاستقطاب المُهاجرين[4].

فالإيمان بالله واحترام قوانين الكون التي خلقها لنا، والالتزام بأوامره ونواهيه، هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة.

وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا:

كانت المُدرِّسة قد أكملت حوارها معي قائلة: وكيف تتطور دول مُلحدة وتتخلف دول مؤمنة بالله، على الرغم من حُبه لهم.

قُلت لها: وهل يُعطي مُدير المدرسة لابنه الفاشل شهادة النجاح، لمُجرد أنه ابنه فقط؟ هناك قوانين وأنظمة يجب أن تُتبع في هذه المدرسة، ويُحدَّد بناءً عليها الناجح والراسب. لكن هذا لا يُغير واقع أن مدير المدرسة يحب ابنه أكثر من الجميع وهو حامل اسمه ووريثه الوحيد.

قلت لها: فالكون كالمدرسة له قوانينه وسُننه، ولقد حقق غير المؤمنين التقدم المادي والتطور التكنولوجي بسبب أخذهم بالقوانين الكونية والسنن الإلهية، ومن ثم استطاعوا بناء أنظمة سياسية جيدة، وأنظمة تعليمية وتربوية قوية وذات معايير منهجية. وكان هذا التقدم المادي فقط لمن أخذ منهم بزمام السنن الإلهية والقوانين الكونية، وهذا دليل على أن النجاح الدنيوي لا يُحابي أبيض ولا أسود، والعدل من أسمائه عز وجل، والظلم من أقبح ما حذرنا الله منه. ولكن مع هذا فالله لن يُعط غير المؤمن الآخرة التي هي لعباد الله المؤمنين وأحبائه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“إِنَّ اللهَ تعالى لا يِظْلِمُ المؤمِنَ حسَنَةً، يُعْطَى علَيْها في الدنيا ويُثابُ عليها في الآخِرَةِ، وأمَّا الكافِرُ فيُطْعَمُ بِحَسَناتِهِ في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرِةِ لم تكنَ لَهُ حسنةٌ يُعْطَى بِها خيرًا”[5].

فالله تعالى يُعطيهم في الدنيا ما يستحقونه باعتبار ما عندهم من خير وما يبذلونه من حق.

كما أن الله تعالى قد ينصر أمة كافرة على أمة مسلمة، عقوبة لها على معاصيها، كما حدث بغزوة أحد.

“وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ “. (آل عمران: 152)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يحب ومن لا يُحب، ولا يُعطي الإيمان إلا من يُحب”[6] .

فقالت: إذاً إن آمنتُ به الآن فسوف يُعطيني مالاً ومنزلاً؟

قلت لها: وإن لم يُعطيكِ والدك مالًا ومنزلا هل كنتي ستُنكرين وجوده؟

الله يَنْتَظِرُنا:

في قصة جميلة لمجموعة من المُلحدين الصينيين الذين كانوا يتساءلون عن رحمة الله، فقال أحدهم:

كيف يُعطينا الخالق غرائز ثم يُطالبنا بأن لا نستعملها؟ ويُعطينا المال ويُطالبنا بأن نخسره بالصدقات، ويُعطينا الوقت ويُطالبنا بأن نُضيعه في العبادات؟ أليس هذا دليل على القسوة؟

قلت له: إذا فأنت تؤمن به واعتراضك فقط على رحمته من عدمها؟

قال: لا، أنا لا أُؤمن به لأنه قاسي.

ضحكت وقلت له: افتراضك أنه قاسي، دليل على إيمانك بوجوده، أنت للأسف تُناقض نفسك. تعالى الله عن أن يكون ظالمًا أو قاسيًا، فهو الرحمن الرحيم، لكن رحمته هي الرحمة المُطلقة. وعلى أية حال فإن القسوة التي تفترضها ليست حجة ضد وجود الله، بل ضد رحمته.

قلت له: أنت برغبتك بإطلاق غرائزك، تريد أن تكون عبداً لها، والله يريدك أن تكون سيداً عليها، يُريدك الله إنسانا عاقلاً حكيماً يتحكم في غرائزه، فليس المطلوب منك تعطيل الغرائز بل توجيهها للارتقاء بالروح وسمو النفس.

قلت له: ألديك أطفال؟

قال: نعم.

قلت له: عندما تُلزم أولادك بتخصيص بعض الوقت في المُذاكرة، ليحصلوا على مكانة علمية في المستقبل، مع رغبتهم في اللعب فقط، هل تُعتبر أنت في هذه اللحظة أب قاسي؟

حينها تفاجأت بالمجموعة تنتفض من الفرحة لإجابتي، وسألني أحدهم: ماذا نفعل الآن وقد أبعدنا عن الله كثيراً، هل يقبلنا إذا عدنا وقد أسأنا إليه كثيراً؟

قلت له: أنتم أسأتم لأنفسكم فقط، فالله تعالى ليس بحاجة لنا، بل نحن بحاجة إليه، ولكن على أية حال، ماذا كنت سوف تفعل أنت عندما يبتعد عنك ابنك العاصي؟ هل كنت ستفضحه وتُشهِّر به، هل كنت ستطلب منه أن يقتل نفسه؟

قال: سأبقى مُنتظراً عودته، وأُسامحه إن عاد.

قلت له: إذاً فالله ينتظركم الآن.

فشهق فرحاً وردد بصوت عالي: الله ينتظرنا ويُكررها. وصار الجميع يلتفت لبعضه البعض ويقول: الله ينتظرنا.

رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ” لَلهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلَته بأرضٍ فَلَاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجَعَ في ظلِّها قد أيس من راحِلَته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخِطامها، ثمَّ قال مِن شدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شِدَّة الفَرح”[7].

وأذكر قصة لي مع ممثل هندي شهير، كان قد اعتنق الهندوسية مؤخراً، وفي أثناء حواري معه وفريق عمله، عن رحمة الله وحبه لعباده، قال أحدهم لي: كيف يصف الله نفسه بالغفور الرحيم تارة، وشديد العقاب تارة أخرى؟ قلت له: الله غفور رحيم مع أصحاب الذنوب التي تُرتكب دون إصرار وبحكم بشرية الإنسان وضعفه، ولا يقصد بها تحدي الخالق، لكنه تعالى يقصم من يتحداه ويُنكر وجوده، أو يُصوره في صنم أو حيوان، فقاطعني المُمثل بصورة غير لائقة وقال: هذه صغائر والله لا يهتم بها.

قلت له: إنك لو شتمت حيوان فلن يلومك أحد، أما أن تشتم والديك، فسوف تُلام وبشدة. لا تنظر إلى صِغر المعصية، لكن انظر مَن عصيت.

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ:

من التجارب العنيفة التي خُضتها في مجال الدعوة، كانت مع امرأة من جنوب أفريقيا وأخيها النصرانيين، وزوجة أخيها التايلاندية البوذية. المرأة وأخيها من سكان أفريقيا الجنوبية البيض، وكانوا يتميزون بضخامة عجيبة في الأجساد، بينما زوجة الأخ كانت صغيرة الحجم جداً، وكنت قد ارتبكت في البداية للتناقض في أشكال وأحجام وعقائد الزوار، وشراسة المرأة في عرضها للدين النصراني عليّ، حيث كان من المفترض أن أبدأ حواري معهم بعرض مُختصر عن الإسلام، وقد فاجأتني بسيل من العبارات الغريبة وبدون توقف، ولم تُعطني حتى الفرصة لأن أتكلم كلمة واحدة، وهي تقول: “الله محبة”، الله يُحبك، الله مات من أجلك. 

تمالكت نفسي وقُلت لها: حسناً، أنا مُستعدة لاعتناق النصرانية، إن أجبتِ عن أسئلتي.

فرحت الزائرة كثيراً، وذهبت لتُحضر زوجة أخيها لتسمع الحوار، حيث كانت زوجة الأخ في زاوية أخرى في المسجد تلتقط بعض الصور التذكارية، وفهمت أن المرأة الجنوب أفريقية تُحاول مع زوجة أخيها من فترة لتترك البوذية وتعتنق النصرانية، فاعتقدت الزائرة أن قبولي للنصرانية سوف يكون حافزاً لزوجة أخيها.

قالت الزائرة في حضور زوجة أخيها: أخبريني ما هي أسئلتك.

قلت لها: أنت تقولين إن الله يُحبني ومات من أجلي، للتكفير عن ذنوبي.

قالت نعم.

قلت لها: وهل حبي لابني يجعلني أقتل نفسي لأسامحه على أخطاؤه؟

وهل حب الله لي يجعله عاجزاً أن يغفر لي إن رجعت وعدت إليه؟

وهل حُبه لي يجعله يُحاسبني على خطيئة ارتكبها غيري وهي خطيئة آدم، ويُعطيني الخلاص لمُجرد إيماني بموت شخص آخر على الصليب، وليس بصالح عملي؟

وهل حب الله للمسيح تجعله عاجزاً عن حمايته من القتل والصلب؟

وكيف يموت الله وهو حي لا يموت في عقيدتكم؟ أليس هذا تناقض؟

وعندما مات لثلاثة أيام حسب اعتقادكم، من كان يُدير الكون في غيابه المزعوم؟

ومن كان يُعطي ويرزق، من كان يحيي ويميت، من أحياه هو نفسه عندما مات؟

ومع أن الله قادر على كل شيء كما تُبررون عقيدتكم، لكن هل يفعل الله ما لا يليق بجلاله، كأن يُعلَّق على خشبة ويُبصق عليه ويُعذب ويموت مصلوباً، والمصلوب يُعتبر ملعون في كتابكم؟

وأين قال المسيح في كتابكم أنه هو الله؟

ولما بكى المسيح وصلّى لطلب الإغاثة من الله عندما أرادوا صلبه، كان قد صلى لنفسه؟

تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيرا.

وكنت قد لاحظت ارتباكها واختلاسها نظرات لزوجة أخيها، وشعرت أنها بدأت تخشى من تأثير كلامي على زوجة أخيها، وقالت بعجلة بدون أن تُجيب على أي سؤال: لقد أعجبني ثوبك كثيراً، وحضنتي بشدة حتى شعرت بالخوف على نفسي، وتركتني وأمسكت بيد زوجة أخيها وغادرت المسجد فوراً.

وأذكر أنني قد واجهت موقف شبيه بهذا الموقف، مع فرنسي نصراني مُتدين، حيث قال لي: الله يحبك، الله مات من أجلك.

قلت له: من أخبركم بهذا؟ الله نفسه أم المسيح؟

قال: القديس بولص، وهو شخص ذكي ومتعلم جداً، ودرجة تعليمه في مستوى درجة تعليم شخص في وقتنا الحاضر ممن يحملون ثلاث شهادات دكتوراه.

قلت له: وما علاقة درجة تعليم بولص بالوحي الإلهي؟

قال: لقد رأى مناماً أخبره أن الله مات من أجلنا.

قلت له: الوحي الإلهي يأتي من الله، ومنه الوحي بالرسالات السماوية، ونقيضه الوحي الشيطاني الذي يأتي عن طريق المنامات للبشر، وكانت قد أضحكته إجابتي.

واستطردت قائلة: ثم إن العِلم البشرى هو إنتاج بشرى، يُصيب ويخطئ، ومنه الابداع العلمي والالهام الأدبي. وهو تجارب وخبرات إبداعية. ولا علاقة لها بالوحي الإلهي على الإطلاق.

وقلت له أخيراً: أنا ليس لدي الكثير من المعلومات عن هذه النقطة، لكنني أتعجب ممن يترك رسالة المسيح الحقيقية التي هي وحي إلهي، ويتبع رؤيا منام، ليس فيها شيء من المنطق ومُخالفة للفطرة والعقل بكل المقاييس، لشخص لم يُقابل المسيح في حياته كبولص، لمُجرد أنه مُتعلم؟ وقد كان من ألد أعداء المسيح، وحاول جاهداً هدم دينه والقضاء عليه، وكان ممن عذَّب أتباعه.

وقلت مُستطردة: فأنا الآن كإنسانة مُحبة للمسيح، وعليّ أن أصدق رسالته.

وقد قال المسيح: الله واحد أحد[8]، ويقول القديس بولص الله ثلاثة في واحد[9].

وقال المسيح في كتابكم: سوف أصعد إلى أبي وأبيكم، ربي وربكم[10]، وقال القديس بولص: المسيح الابن المولود الوحيد لله[11].

وقال المسيح في كتابكم: أنا لا أستطيع أن أعمل شيئاً بنفسي[12]، ويقول بولص: المسيح كلي القدرة[13].

وقال المسيح في كتابكم: الإله أعظم مني[14]، وقال بولص: أن المُسيح مُساوي للإله في العظمة[15].

فأخبرني أرجوك ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ أُصدق المسيح، أم أُصدق بولص؟

قال: تعرفين كل هذا، وتقولين ليس لديك معلومات؟ هل تسمحين لي بالتقاط بعض الصور لأنني عندي موعد هام وعليّ المغادرة.

قُلت له: تفضل.

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ:

قصة أخري لأمريكي وياباني من أروع القصص التي عشتها في حياتي، حيث كنت في ذلك اليوم متعبه جدا وكان هذا اليوم حافلا بالعمل، وكانوا قد أخبروني أن في انتظاري زائرين أمريكي وياباني، وظننت أنهم أصدقاء لكنني فوجئت أنهم لا يعرفون بعضهم البعض، ولكن تقابلوا في غرفة الانتظار في المركز، فأخذتهم في زيارة الي الداخل مع تعبي الشديد لكنني سبحان الله وافقت.

وجئت بالأمريكي ينهال عليّ بالأسئلة بشكل مُتواصل، وسؤال يتبعه سؤال، طبعا الياباني كان يتكلم الانجليزية بطلاقه ولكنه كان يستمع، لم يُقاطعنا وكان يستمع بإنصات، لكن الأمريكي كان لا يتوقف عن الأسئلة بشكل غير طبيعي لدرجة أنني شككت أنه يريد مُهاجمة الإسلام وأنه لا يسأل للاستفادة، حيث أنه سألني أسئلة كثيرة استمرت إلى ثلاث ساعات.

وقد طلب مني أن يتعلم ويحفظ سورة الفاتحة، وحفظها، وطلب أن يتعلم سورة الاخلاص وأن يتعلم الصلاة، في الزيارة خلال الثلاث ساعات، وقد ألهمني الله الصبر مع تعبي الشديد، وشعرت لاحقاً من طبيعة أسئلته أنه مُلحد ولا يعتنق أي ديانة، لأن النصراني عادة لا يُهاجم الخالق.

فقال من ضمن ما سأل: لماذا لا يَقبل الله الادعاء بأن المسيح ابنه، هل يغار الله من المسيح؟

قلت له: عندما تُرسل لي طرداً مع ساعي البريد، وأُذيع أنا بين الناس أن ساعي البريد هو ابنك، هل تقبل أنت بهذا؟

قال: لا.

قلت له: هل لأنك تغار منه؟

قال: لا، لأنه ببساطة ليس ابني.

قلت له: إذاً، فأنت تقبل على خالقك ما لا تقبله لنفسك.

قال: ولماذا يُعذب الله بالنار؟

قلت له: وماذا تنتظر من الله ليفعل بمن يُعذِّب الأطفال بالأسلحة الكيماوية مثلا، أن يُدخله الجنة؟

قلت له: ومن تبرأ من أمه وأبيه وأهانهم وطردهم من المنزل وجعلهم في الشارع مثلاً، ماذا تشعر تجاه هذا الشخص؟

قال: اشعر بغيظ شديد.

قلت له: إن قلت لك أنني سوف أُدخله منزلي وسوف أُكرمه وسوف أُطعمه وسوف أشكره على هذا العمل هل تُقدر أنت عملي، هل تتقبل ذلك مني؟

قال: لا.

فقلت له: ولله المثل الأعلى، ماذا تنتظر مِمَّن رفض خالقه وكفر به؟ من عوقب بالنار فكأنما وُضع في مكانه الصحيح، هذا الشخص احتقر السلام والخير على الأرض، فلم يستحق نعيم الجنة.

“..وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ”.( الأنعام : 20)

أي أن ذنبهم ليس ذنباً محدوداً في الزمان بل هو خصلة ثابتة.

“يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىْءٍ ۚ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَٰذِبُونَ”. (المجادلة :18)

فهم يواجهون الله أيضاً بالحلف الكذب، وهم بين يديه يوم القيامة.

“وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” .( الأعراف : 36)

كما أن الشر يمكن أن يأتي من أناس في قلوبهم حسد وغيرة ويكونوا سبباً في بث المشاكل والنزاعات بين البشر. فكان من العدالة أن يكون جزائهم النار وهو ما يتناسب مع طبيعتهم.

وصِفة الله العادل تقتضي أن يكون مُنتقماً إلى جانب رحمته، فالله في النصرانية “محبة ” فقط وفي اليهودية

” غضب” فقط، وفي الإسلام هو إله عادل ورحيم وله الأسماء الحسنى جميعًا، وهي صفات الجمال والجلال.

قلت له مُستطردة: ثم إنه في الواقع العملي في الحياة، نستخدم النار لعزل الشوائب عن المادة النقية، كالذهب والفضة، ولذلك فإن الله تعالى – ولله المثل الأعلى – يستخدم النار لتنقية عباده في الحياة الآخرة من الذنوب والآثام، ويخرج من النار في النهاية من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان برحمته.

قال: أريد دليلا ملموساَ على وجود الله.

قلت له: أنت تطلب أضعف البراهين. فنحن نُبصر قوس قزح والسراب وليس لهما وجود ملموس! ونُصدق وجود الجاذبية دون أن نراها لمُجرد أن أثبتها العِلم المادي.

“لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” .( الأنعام: 103)

إن مُجرد الظن بالقدرة على الإحاطة بالإدراك الكامل لله هو عين الجهل به، فقد تقودك السيارة إلى شاطئ البحر، ولكن لا تُمكنك من الخوض فيه. فلو سألتك مثلا عن مياه البحر تُساوي كم لتر، وأجبت بأي رقم فأنت جاهل، ولو أجبت بلا أعلم فأنت عالِم. إن الطريق الوحيد لمعرفة الله هي آياته في الكون وآياته القرآنية.

قال: ولماذا لا يكون هناك آلهة أخرى ترزق وتشفي؟

فلت له: وهل ادعى أحد غير الله أنه الرازق الشافي، لندرس صدق دعواه من عدمها؟

كذلك يُلاحَظ أنّ الإنسان في الشدة يتوجّه إلى حقيقة واحدة ويرجو ربّاً واحداً لا أكثر. وقد أثبت العلم وحدة المادة، ووحدانية النظام في الكون من خلال التعرف على مظاهر الكون وظواهره، ومن خلال التشابه والتماثل في الوجود.

ثم تخيل على مستوى الأسرة الواحدة عندما يختلف الأب والأم على اتخاذ قرار مصيري يخص الأسرة، ويكون ضحية اختلافهم ضياع الأطفال وتدمير مُستقبلهم، فما بالك في إلهين أو أكثر يحكمان الكون.

“لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ”. (الأنبياء: 22)

قال: هل يستطيع الخالق أن يُحيي ميتاً أمامي؟

قلت له: العجيب أنكم أنتم الملحدون تُكررون نفس الأسئلة وكأنكم متفقون عليها، مع أنني على قناعة أنكم على يقين من عدم واقعيتها ومنطقيتها.

قلت له مُستطردة: وإن أحيى الله أمامك الموتى فلن يُقنعك ذلك، كما حدث في قصة موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء الذين قدموا لأقوامهم المُعجزات، لكن أقوامهم اتهموهم بالسحرة.

“كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴿٥٢﴾ أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴿٥٣﴾”. (الذاريات : 52-53)

“وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ”.(الأنعام : 111)

استطرد الأمريكي قائلا: كيف يُعاقب الخالق عباده بعذاب لا ينتهي، على معاص قليلة، كان قد ارتكبها في حياته القصيرة.

قلت له: إﻥ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺗصل بأﺻﺤﺎﺑﻬﺎ إﻟﻰ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟﻤُﺆﺑﺪ. ﻓﻬﻞ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻳﻘﻮﻝ أﻥ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟﻤُﺆﺑﺪ ظُلم، لأﻥ ﺍﻟﻤﺠﺮﻡ ﺍﺭﺗﻜﺐ ﺟﺮﻳﻤﺘﻪ ﺑﺪﻗﺎﺋﻖ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ؟ ﻫﻞ ﺣُﻜﻢ العشر ﺳﻨﻮﺍﺕ ﺣُﻜﻢ ﻇﺎﻟﻢ، ﻷﻥ ﺍﻟﻤُﺠﺮﻡ ﻟﻢ ﻳﺨﺘﻠﺲ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻮﺍﻝ إﻻ ﺳﻨﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ فقط. إﻥ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺎﺕ ﻻ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺪﺓ ﺍﺭﺗﻜﺎﺏ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺑﻞ ﺑﺤﺠﻢ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﻭﻓﻈﺎﻋﺘﻬﺎ.

واستطرد الأمريكي حواره معي قائلاً: ولماذا كرر الإله التحذير من النار، ألا يدل ذلك على عدم رحمته وعدم محبته لنا؟

قلت له: أنا أُرهق أولادي بكثرة تنبيهي لهم كلما سافروا أو ذهبوا إلى العمل، أن يأخذوا حذرهم في ذهابهم وإيابهم، فهل تعتبرني أُماً قاسية؟  هذا قلب للموازين، فإنكم تجعلون من الرحمة قسوة، فالله يُنبه عباده ويحذرهم لرحمته بهم، ويرشدهم إلى طريق الخلاص، ووعدهم بتبديل سيئاتهم حسنات عندما يتوبوا إليه.

قلت له مُعقبة: ولماذا لم يلفت نظرك عِظَم الثواب والنعيم في جنات الخلود مُقابل قليل من الطاعات؟

وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” . (التغابن:9)

إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا:

أكمل الأمريكي حواره قائلاً: ولماذا طلب الله من نبيه إبراهيم ذبح ابنه، أليست هذه قسوة؟

قلت له: وهل طلب الله منك ذلك؟ إذا ادعى شخص أنه أذكى رجل في العالم، فمن الطبيعي جداً أن يخضع لأصعب الاختبارات، لإثبات ادعاءه. وإبراهيم عليه السلام نبي ورسول يوحى إليه، وقد صرَّح أن الله أحب إليه من كل شيء، فاختبره الله ليُثبت هذا الحب.

علما أنه ورد على زمن نبي الله إبراهيم عادة تقديم الأبناء قربانا للآلهة، وأراد الله ان يُبطل هذه العادة في تقديم الاضحية بدلاً عن الأبناء.

قال: ولماذا يُكرر القرآن أن الله يُحب المؤمنين الصالحين ولا يُحب الكافرين، أليسوا جميعاً عباده؟

قلت له: الله تعالى أرشد جميع عباده لطريق الخلاص، ولا يرضى لهم الكفر، لكنه لا يُحب السلوك الخاطئ نفسه الذي يسلكه الإنسان بالكفر والإفساد في الأرض.

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (الزمر:7)

قلت له أيضاً: ما قولك في أب يُكرر أمام أبنائه أنني فخور بكم جميعاً، إن سرقتم وزنيتم وقتلتم، وأفسدتم في الأرض فأنتم بالنسبة لي كالعابد الصالح؟ ببساطة أقرب وصف لهذا الأب هو أنه كالشيطان، يحث أبناؤه على الفساد في الأرض.

قال: ولماذا يُذكرنا الله دائما في القرآن بنعمه علينا، فما أعطانا إياه بالنسبة لما يمتلكه لا شيء، فأين العظمة في ذلك؟

قلت له: الله يُذكرنا بنعمه علينا، ليحمينا من أنفسنا من التوجه لغيره بالشكر والعرفان، فإننا إن لم نعبده فسوف نتوجه بالعبادة لغيره. فكلما حصلت أنا على المال مثلاً، أو شعرت بنشوة النجاح، وافتخرت بإنجازاتي فكأنني أشكر نفسي دون أن أشعر، وأُرجع نجاحي إلى قدراتي التي هي أصلاً من الله، فأفتح حينها صفحة من القرآن لأقرأ الآية الكريمة وما توفيقي إلا بالله، فأعود وأقول الحمد لله.

قلت له أيضاً: إن أهداك أحد هدية، هل تفرح بالهدية لذاتها أم بدلالتها على محبة من أهداها إليك؟

قلت له مستطردة: فعظمة العطاء بقيمة مصدره، فلو أعطيتك 100 دينار، وأعطاك المَلِك دينار، لكنت فرحت أكثر بدينار الملك، ولأشعلت وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الخبر.

طبعا الياباني كان يستمع ولم يتدخل أبدا خلال الثلاث ساعات.

عاد الأمريكي وسأل: أليست قسوة، أن يُحاسبنا الله على أعمال هو كتبها علينا أصلاً؟

قلت له: إنك عندما تريد مثلا أن تشتري شيئا من المتجر، وتُقرر أن ترسل الابن الأول لشراء هذا الشيء، لأنك على عِلم مسبق أن هذا الولد حكيم، وسوف يذهب مُباشرة لشراء ما تُريده تماما، وتعلم أن الولد الآخر سوف ينشغل باللعب مع أقرانه، ويُضيع المال، وهذا في الواقع افتراض قد بنيت حُكمَك عليه.

قلت له: الاطلاع على الأقدار لا يتناقض مع إرادة اختيارنا، لأن الله يعلم أفعالنا بناءً على علمه التام بنوايانا واختياراتنا. وله المثل الأعلى- يعلم طبيعة البشر، فهو الذي خلقنا ويعلم ما في قلوبنا من الرغبة بالخير أو الشر ويعلم نوايانا ومُطلع على أفعالنا، وتسجيل هذا العِلم عنده لا يُناقض إرادة اختيارنا. علما بأن الله عِلمه مُطلق، وتوقعات البشر تُصيب وتُخطأ.

قلت له أيضاً: من الممكن أن يتصرف الإنسان بطريقه لا تُرضي الله، لكن تصرفه لن يأتِ ضد إرادته تعالى، فقد أعطي الله خلقه إرادة الاختيار، لكن تصرفاتهم تلك وإن كانت فيها معصية له، فهي لا تزال ضمن إرادة الله ولا يمكن أن تُعاكسها لأنه تعالى لم يُعط أحداً مجالاً لتجاوز مشيئته.

قال: فلماذا يسمح بالمعصية؟

قلت له: أحيانا عندما يصر ابني مثلا الصغير على مساس النار وأقول له لا تفعل هذا الشيء، لكن في لحظة ما، عندما أجده عنيدا أسمح له أن يمسها  لكي يتعلم من تجربته، لأنني علمت بعلمي بشخصية ابني أن هذا الولد لن يتعلم إلا اذا جرب، ولله المثل الأعلى، فالله يعلم طبيعة هذا الشخص ويعلم أنه لن يتعلم إلا اذا جرب، ولهذا نجد أن هناك كثيراً من الناس يتعرضون لاختبارات بسيطة من الله، وهناك بشر يتعرضون لاختبارات صعبه، هذا كله بعلمه سبحانه فربما يكون ذلك لأنه يعلم أن هذا الشخص لن يتعلم ولن يرجع إلى الله إلا باختبار صعب.

قال: ولماذا يُجبرنا على الإيمان؟

قلت له: وهل أجبرك الله على الإيمان به؟ أنت تقف أمامي وتدَّعي أنك غير مؤمن به.

إنك لا تستطيع أن تُجبر قلبك وتُكرهه على قبول شيء لا يُريده، فإنه من الممكن أن تُجبر شخص على البقاء معك تحت التهديد والترهيب، لكن لا تستطيع إجبار هذا الشخص على أن يحبك، لقد حفظ الله قلوبنا من أي شكل من أشكال الاكراه، لهذا السبب هو يُحاسبنا ويكافئنا بناء على نوايانا وما تحمله قلوبنا.

وفي نهاية الزيارة كانت المفاجأة، جاء الأمريكي وقال لي أنه يريد أن يلتقط صور داخل المسجد، وأثناء غياب الأمريكي جاءني الياباني، وقال لي: أنا أُعجبت جدا بهذا الدين، ما هذا الدين العظيم؟ أنا أريد أن أعتنق هذا الدين، وقد كانت مفاجئة مذهلة لي، حيث أنني لم أجد منه أي ردة فعل خلال الزيارة وكان يستمع فقط. وشهد الياباني أمام الامريكي بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وما كان على الأمريكي إلا أن يُبارك له، وطلب مني الياباني تفاصيل أكثر عن ممارسة هذا الدين وقد أعطيته رقم تليفون المركز الاسلامي في طوكيو، وقد وعدني بأن يستمر على هذا الطريق.

يأتي الله بقوم يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَه:

“الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ “. (غافر: 7)

ويتجلى محبة الله ورحمته لعباده في خلقهم وتكريمهم وإرشادهم وبيان الطريق الحق لهم.

” وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿١٠﴾ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴿١١﴾”. (الأعراف : 10 -11 )

ومن الإشارات اللطيفة في القرآن الكريم أن الله قدم ذكر حبه لعباده على ذكر حب العباد له، وذلك من لطفه العظيم، ورحمته الواسعة بهم.

” …فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ… ” . (المائدة: 5)

ومن الإشارات اللطيفة في القرآن الكريم أيضاً، أن رحمة الله ولطفه تتجلى حتى فيما يُصيب الانسان من مصائب وضر.

أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ“.(يس : 23)

فإذا شاء “الرحمن” أن يصيب الإنسان بالضر، فإن هذا مُوجب لرحمته ولطفه، ويصير الأمر الذي ظاهره الضر في حقيقته رحمة، وخيرًا للمؤمن؛ لأن الرحمن لا يصدر عنه إلا الرحمة واللطف والبر.  

وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ“.(البقرة : 216)

ومن رحمة الله بخلقه أن وزع الأرزاق بينهم، وجعل بينهم حاجات يقضيها أحدهم للآخر، ليتحقق التعاون فيما بينهم، بما يعود بالنفع على الجميع، ولو استغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، وأبقى باب العطاء والفضل الرباني مفتوحا للتنافس فيه ولدوام التعلق به.

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ “. (الزخرف : 32)

وتتجلى رحمة الله في شريعته وأحكامه والتي هي خير ورحمة للخلق سواء ما يتعلق بهدايتهم وحفظ دينهم، أو ما يتعلق بحفظ أنفسهم وأبدانهم، عقولهم وأفكارهم، حفظ أعراضهم وأنسابهم وأولادهم، وحفظ أموالهم وممتلكاتهم.

فكل ما يتعلق بهذه الضروريات الخمس من أحكام إنما جاءت رحمة بالناس بالمحافظة عليها وحمايتها من الفساد والعدوان، ورفع الحرج والعنت عن الناس، وحفظ لكل ذي حق حقه، حتى يتسنى لهم العيش في بيئة صالحة وآمنة وسعيدة، حيث أن الحق في البيئة السليمة هو من ركائز حق الحياة.

“وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ” . (البقرة: 205)

يقول ابن القيم – ويُذكر من باب الاعتبار والموعظة -: “أوحى الله إلى داود عليه السلام فقال: يا داود لو يعلم المدبرون عني انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي، وتقطَّعت أوصالهم لمحبتي، يا داود هذه إرادتي بالمُدبرين عني فكيف بالمقبلين علي”[16].


[1]  (الإنسان:9)

[2] (رواه مسلم)

[3] https://www.nature.com

[4]من مقال مفھوم الفردانیة المطلقة والفرد في الأمة بقلم: مروان صباح، جريدة الوطن.

[5]  ( حديث صحيح)

[6]  ( حديث صحيح)

[7] ( رواه البخاري)

[8] (Mark 12:29)

[9] (Corinthians 12:3-6)

[10]( John 17:20)

[11]  (Galatians 4: 4,5)

[12] (John 30:5)

[13] (John 5:15)

[14] (John 28:14)

[15] (Hebrews 3:1)

[16] روضة المحبين (ص 438)

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *