قال الخالق:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء، الآية: 70) .
ترتكز الإنسانية في المفهوم الغربي على الإيمان بالإنسان، والاعتقاد بقيمته واعتباره مقياس كل شيء، ويتم ذلك عن طريق تحقيق الحرية، وسبيل ذلك لديهم تحطيم ما يسمونه قيود العصر الوسيط ومقاومة الجمود والتقليد.
وبذلك فإن الإنسانية أصبحت بمثابة إله يعبد من دون الخالق، فهي تجعل الإنسان مقياس كل شيء، وقادرًا على بلوغ حقه المطلق للتمتع بالحياة .
عندما يضع البشر قيما انسانية (دين وضعي) فهي ليست قيما قابلة للصواب والخطأ والتعديل فقط، وإنما لا توفر أيضا الدافع الذي يجعل البشر يلتزمون بها.
إنها مجرد شعارات تجعل من الرفاهية والمتعة والراحة البشرية القيمة نفسها. هذه الشعارات لا تعطي للانسان قيمة أو غاية تتخطى متعته في هذه الأرض.
وقد ينخدع بهذه الشعارات (دين وضعي) بعض الناس لبعض الوقت. لكن عند تطبيق هذه الشعارات سيضع الانسان راحته ورفاهيته ومتعته فوق أي شعار.
إن المشرع البشري يَحْمل نفساً مركبة من الهوى والميل إلى المصلحة الذاتية، ومن ثم تجد التشريع الوضعي يجحف بطائفة على حساب أخرى .
ونشاهد على سبيل المثال أن فريقا معينا في مؤسسة معينة إن مسك زمام الإدارة يشرع قانون تجميد الأجور مثلا، وإن انتقل إلى فريق معارضة الإدارة يؤلب رأي الجميع لرفع الأجور، وما ذاك إلا لأن واضعي القانون يراعون مصلحة الأشخاص في كل الأحوال.
وأما التشريع الإلهي فإنه منزه عن هذه الملابسات، فالعدل الإلهي ساوى بين البشر، فلم يفضل أحداً على أحد، وإنما حصر معيار التفاضل في التقوى.
قال الخالق:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة الحجرات:13 )
وتتجلى في هذه الآية قمة الإنسانية.
فدين الخالق يعطي للإنسان قيمة وغاية في هذه الحياة لا تتوقف عند حدود متعته وشهوته ولذته.
دين الخالق يعطي للإنسان قيمة وغاية تتخطى ذاته.
بأن يكون هدف الإنسان الأسمى هو رضا الخالق وحبه وتقواه وخشيته وجنة بعد الموت تحيا فيها مع الأبطال الحقيقيين من الأنبياء والصالحين الذين أفنوا أعمارهم وضحوا بأرواحهم من أجل قيم أعلى من مجرد رفاهية ومتع زائلة.
قال الخالق:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”
وضعت جامعة هارفارد الأمريكية هذه الآية من سورة النساء في مدخل كلية القانون، حيث يتم تعليق أهم الأقوال التي تتحدث عن العدالة في تاريخ البشرية.
ووضعت الآية الكريمة رقم 135 من سورة النساء على الحائط المقابل للمدخل الرئيسي لكلية القانون بجامعة هارفارد، وهو حائط مخصص لأهم العبارات التي قيلت عن العدالة عبر الأزمان. كما وضع شرح للآية ومعناها ولمحة صغيرة عن السورة التي جاءت فيها.
وجاء في الشرح المرفق بترجمة الآية القرآنية أنها تؤكد على أهمية الصدق في الشهادة. وعن سورة النساء كتب أنها “تتعامل بشكل رئيسي مع التزامات ومسؤوليات المرأة في المجتمع الإسلامي”، وتشرح أيضاً أصول الميراث وقانون الأسرة.
في حوار لي مع أعضاء منظمة دولية تعنى بحقوق الطفل سألني أحدهم:
لماذا لا تتزوج المرأة أربع رجال كما يتزوج الرجل في الإسلام ؟
قلت له:
لأن الإسلام جاء ليقيم العدالة على وجه الأرض. ويعطي كل ذي حق حقه.
وسألت الحضور قائلة:
ما هو أول حق من حقوق الطفل ؟
قال أحدهم:
الحب.
قلت:
أول حق من حقوق الطفل أن يعرف والده. الذي سوف يمنحه الحب والحنان حين يعيش معه حياة كريمة.
وقلت أيضا:
وحق الطفل في الحياة أيضا.
قال أحدهم:
وكيف ذلك؟
قلت له:
وفقاً لتقرير صندوق الأمم المتحدة عن حالة سكان العالم لعام 2022، فإن ما يقرب من نصف جميع حالات الحمل في جميع أنحاء العالم غير مرغوب بها، وقد ينتهي أكثر من 60 في المائة منها بالإجهاض. يجرى سنوياً نحو 73 مليون حالة إجهاض متعمّد في جميع أنحاء العالم.
وقلت أيضا:
ماذا يعني هذا ؟
أين حق هؤلاء الأطفال في الحياة؟
تتجلى رحمة الخالق ومحبته لخلقه قبل محبة البشر لبعضهم البعض في شريعته وأحكامه والتي هي خير ورحمة للخلق والتي جاءت لحفظ الضروريات الخمس التالية:
- حفظ دينهم.
قد أحسنت الأمة الإسلامية التعامل مع خالقها، لأنها تكون بذلك قد حافظت على دين يضع العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في المكان الصحيح، وذلك باعطاء الخالق حقه بالتواصل معه مباشرة، في الوقت الذي أساءت فيه الحضارات البشرية الأخرى التعامل مع الله، فقد كفرت به، وأشركت معه مَخلوقاته في الإيمان والعبادة، وأنزلته منازل لا تتلاءم مع جلاله وقدره كأن نسبوا له ولد، أو أنه يتجسد في صورة حيوان أو حجر وما إلى ذلك.
- حفظ أنفسهم وأبدانهم.
فقال تعالى : “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” (المائدة، الآية: 32)،
- حفظ عقولهم وأفكارهم والمتمثل بتحريم الخمر.
فالعقل إنما يوجد للاختيار بين البديلات. فبالتالي العقل يجب أن يكون موجود وسليم وهو أساس التكليف. ويجب أن تكون مقاييسه صادقة لكي يستطيع الإنسان اختيار البديل الخير وتجنب البديل الشر. فليس من حق الإنسان أن يستر العقل الذي هو مناط التكليف من الله بشرب الخمر أو أي نوع من المسكرات. فكأنه عمد إلى النعمة الكبرى (العقل) التي هي منفذه إلى الإيمان بالله ومنفذه إلى التكليف ليعطله. وكل التكاليف بعد ذلك بما فيها الصلاة والصوم وغيرها فرع للعقل التكليفي. والفطرة بطبيعتها سليمة فلا يجب افسادها.
وبشرب الإنسان للخمر يكون كأنه رد إلى الله النعمة التي ميزه بها عن الحيوان(١).
- حفظ أعراضهم، أنسابهم وأولادهم المتمثل بتحريم الزنا.
المحافظة على كرامة المرأة؛ فإن إباحة الزنا يعني سلب المرأة كرامتها ، وجعلها سلعة مهانة ، والإسلام جاء لإكرام الناس، وبخاصة المرأة ، بعد أن كانت في الجاهلية متاعاً يورَث، ومحلاًّ للإهانة والتحقير .
المنع من انتشار الجرائم، فالزنا من أسباب انتشار جرائم القتل وكثرتها، فقد يقتل الزوج زوجته وصديقها وقد يقتل الزاني زوج صديقته مثلاً.
وحفظ الأنساب ومنع اختلاطها إنّ من أبرز دواعي تحريم الزنا وتحريم زواج المرأة بأكثر من رجل في الوقت ذاته؛ والذي يؤدي إلى اختلاطٍ الأنساب، وذلك بنسبة الأبناء إلى غير آبائهم الحقيقيّين.
- حفظ أموالهم وممتلكاتهم المتمثل بالقوانين الصارمة ضد المجرمين.
في الواقع، لن يعترض على هذه الحدود والقوانين الصارمة إلا المجرمين وقطاع الطرق والمفسدين في الأرض لخوفهم على أنفسهم، والتي وُضعت للردع ولعقاب من يقصد الإفساد في الأرض، بدليل أنها تُعطَّل في حالات القتل الخطأ أو السرقة بسبب الجوع والحاجة الشديدة أو الاشتباه.
لنتخيل معًا حاكم قرية يعلن على الملأ:
● حقوقكم محفوظة.
● أموالكم أمانة في أعناقنا، وتحت حراستنا المشددة، ومن يقترب منها سارقًا لسوف نقطع يده.
● أنتم في أعيننا، وحياتكم عزيزة علينا، ومن يقترب منها قاتلاً سوف ننهي حياته.
الآن، ماذا يمكننا أن نُطلق على حاكم هذه القرية؟ هل يمكننا إطلاق لقب وحشي أو بربري عليه؟
فكل ما يتعلق بهذه الضروريات الخمس السابق ذكرها من أحكام إنما جاءت رحمة بالناس بالمحافظة عليها وحمايتها من الفساد والعدوان، ورفع الحرج والعنت عن الناس، وحفظ لكل ذي حق حقه، حتى يتسنى لهم العيش في بيئة صالحة وآمنة وسعيدة، حيث أن الحق في البيئة السليمة هو من ركائز حق الحياة.
“وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ” . (البقرة: 205)
جاء الإسلام ليقيم العدالة على وجه الأرض، ويتمثل ذلك بالآتي أيضا:
- إعطاء الخالق حقه بعبادته وحده.
- إعطاء البشر حقهم بالتواصل المباشر مع خالقهم.
- اعطاء رسل الخالق حقهم، جميعهم من آدم إلى محمد بما فيهم المسيح وموسى عليهم الصلاة والسلام، وذلك بالإيمان بهم واحترامهم واتباع رسالة آخر نبي فيهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
- رفع الظلم والاضطهاد عن المظلومين.
- التخلص من العصبية القبلية المقيتة، وارساء مبادئ الأخوة والمساواة بين البشر.
- إعطاء البشر حقهم في اختار الدين، حيث كانت الشعوب في الحضارات السابقة لبعثة نبي الله محمد محرومة من هذا الحق.
أما بخصوص التعايش السلمي، فمن أساسيات عقيدة المسلمين هو ضم الآخرين معهم ومشاركتهم لهم في حياتهم (لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من حقوق وواجبات)، مع تباين في التطبيق الذي تعتريه العيوب، والذي أخذ بعض الأحيان في عصور لاحقة طابعًا سياسيًا بسبب الضعف البشري.
وهذا يقودنا إلى أهمية التمييز بين دين الإسلام المثالي والمسلمون الغير مثاليون.
وقد عاش اليهود والنصارى وغيرهم من العقائد المختلفة بكنف اﻹسلام يتمتعون بحقوقهم. وهذا ما ينادي بها العالم اليوم، الدين اﻹسلامي الذي جعل لغير المسلم حقوقًا عنده، وعرَّف البشرية كلها المعنى الحقيقي للتعايش السلمي، ولكن دون اﻹعتراف بصحة دين غير المسلم، فالدين الصحيح دين واحد لا تعددية فيه.
فعلينا في جميع الأحوال التمسك بحقيقة وجود دين واحد صحيح، وهو عبادة الخالق الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. والذي لا يأتي إلى الأرض في صورة إنسان أو حيوان أو صنم أو حجر.
أجمل الكلام :
مما قرأت وأعجبني:
- لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى!
- تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف!
- ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب!
- أحب للناس ما تحب لنفسك!
- تبسمك في وجه أخيك صدقة!
خرج هذا الكلام من رجل أمي قبل 1400 عام في بيئة تعظم القوة، وتقسم الناس بين عبيد وسادة، فخالف كل ما هو سائد، وثار عليه، فهذّب الأخلاق، ونصر الضعفاء؛ حتى جَعلَ بلِالاً الذي كان عبداً مملوكاً؛ يقف فوق أقدس مكان للمسلمين لينادي الناس للصلاة!
مراجع :
محمد متولي الشعراوي(١)